45/04/01
كان الكلام في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ حيث استُدل بها على وجوب الاحتياط بتقريب تقدم وتقدم الجواب عنه، ويمكن أن يضاف الى ما تقدم شيء آخر هو أنَّ ظاهر الآية افتراض وجود تهلكة في المرتبة السابقة على النهي، والآية تنهى عن الاقتحام فيها، والمعنى: إنَّ الشيء إذا كان فيه تهلكة فلا يجوز ارتكابه، فلا بد من فرض وجود تهلكة في مورد من الموارد حتى تشمله الآية، ولا تكون تهلكة إلا إذا كان الشيء منجَّزاً في مرتبة سابقة والآية تدل على عدم جواز اقتحامه، فتكون إرشادية لا تأسيسية مولوية، ولا يترتب على مخالفتها سوى الوقوع في التهلكة المفروضة قبل النهي، وعليه لا تصلح للاستدلال على عدم جواز الالقاء في التهلكة.
وبعبارة أخرى الآية تدل على أنَّ الشبهة إذا تنجَّزت بمنجِّز فلا يجوز اقتحامه ومخالفته، فتكون إرشاداً الى حكم العقل بعدم جواز مخالفة التكليف المنجَّز وتخرج عن كونها مولوية تأسيسية.
وعلى كل حال فالآية لا تشمل محل الكلام وهو الشبهة الحكمية بعد الفحص لعدم وجود المنجِّز فيها، وهذا واضح بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان، وأما بناءً على مسلك حق الطاعة ومنجزية الاحتمال فلا يتم ذلك لوجود المنجِّز في المرتبة السابقة كما هو الحال في الشبهة قبل الفحص أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، نعم وجوب الاحتياط بناءً على هذا المسلك لا يثبت بالآية وإنما يثبت بمنجزية الاحتمال.
ويضاف الى ما تقدم احتمال أن يراد بالتهلكة في الآية الفقر والافلاس بقرينة صدر الآية وهو قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلقُوا بِأَیدِیكُم إِلَى ٱلتَّهلُكَةِ وَأَحسِنُوۤا إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلمُحسِنِینَ﴾ فكأن الآية تقول إنَّ الانفاق مطلوب ومرغوب ومأمور به شرعاً ولكن له حدود لا ينبغي تجاوزها وذلك بإنفاق كل ما يملك فيكون الانسان مفلساً ومحتاجاً الى الآخرين.
بتقريب أنَّ الأمر بالرد الى الله والرسول كناية عن الأمر بالتوقف المساوق لعدم الاقتحام فتدل على عدم جواز اقتحام الشبهة.
أولاً: أنَّ موضوع الآية هو المنازعة والمخاصمة، فلم يُفرض فيها الشك في الحكم الشرعي الذي هو موضوع وجوب الاحتياط.
ثانياً: يحتمل أن يراد من الرد الى الله والرسول هو الأمر بتحكيمهما في المنازعة بمعنى عدم جواز الرجوع الى غيرهما في مورد المنازعة أو مورد الشبهة لمعرفة حكمهما فيهما وهذا غير التوقف في الشبهة، فلا دلالة فيها على وجوب التوقف والاحتياط.
هذا تمام الكلام في ما استُدل به من الكتاب العزيز.
وأما الاستدلال بالسُّنة الشريفة فبروايات كثيرة يدعى أنها تدل على وجوب الاحتياط، إلا أنَّ قسم منها واضح الضعف من حيث الدلالة، وقسم آخر ليس كذلك فلذا تعرضوا لبيان وجه الاستدلال بها وجوابه، ومن أمثلة القسم الأول جملة من الأحاديث نقلها صاحب الوسائل في كتاب القضاء أبواب صفات القاضي في البابين 12 و 9:
فمن الباب12ما يلي:
الحديث 46 عن الرضا (عليه السلام): أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لكميل بن زياد: (أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت).
والمناقشة فيه باعتبار أنَّ الاحتياط المأمور به مُعلَّق على مشيئة المكلف، وهذا يعني إناطة مقدار الاحتياط باختيار المكلف وهذه قرينة على أنَّ الأمر ليس للإلزام وإنما للاستحباب، وذلك لأنه لا معنى لتعليق مقدار من الاحتياط على مشيئة المكلف لو كان واجباً لأنَّ المصلحة الملزمة التي تقتضي الوجوب إما أن تكون موجودة في الزيادة أو في الأقل، وعلى الأول لا يكون الأقل كافياً فكيف يقول له (بما شئت)، وإن كانت المصلحة موجودة في الأقل كانت الزيادة مستحبة، فتعليق مقدار الواجب على مشيئة المكلف لا معنى له أيضاً، وعلى كل حال نفس التعليق على المشيئة قرينة على عدم الالزام.
ومنها الحديث 29 وعن محمّد بن عليّ ماجيلويه، عن عمّه، عن البرقي، عن العبّاس بن معروف، عن أبي شعيب، يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (أورع الناس من وقف عند الشبهة).
والاستدلال به يتوقف على إثبات وجوب الأورعية فيكون الوقوف عند الشبهة واجباً لأنَّ الأورعية تتحقق به، ولكن الحديث ليس فيه دلالة على وجوب الأورعية كما أنه لا يستفاد وجوبها من دليل آخر، بل قالوا لا دليل على وجوب الورع فضلاً عن الأورعية.
ومنها الحديث 43 الفضل بن الحسن الطبرسي في التفسير الصغير، قال: في الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
والمناقشة فيه بأنه يحتمل أن يكون المقصود منه الأمور الخارجية التي يقع فيها الريب والشك فتترك الى غيرها مما ليس فيه ذلك، فيكون إرشاداً الى قاعدة مفادها لا داعي للمخاطرة في أمر فيه مخاطرة إذا كان هناك أمر آخر ليس فيه ذلك، فتكون أجنبية عن محل الكلام، نعم لو كان الريب مضافاً الى التكليف أمكن الاستدلال به على محل الكلام.
هذه نماذج من الروايات التي استُدل بها ولا دلالة فيها على وجوب الاحتياط.
الأولى الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة بلسان (التوقف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).
الثانية الأخبار الآمرة بالاحتياط في الشبهات.
الثالثة أخبار التثليث.
الشيخ الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليِّ بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه).
ورجال السند لا باس بهم إلا الزهري.
والحديث 13 الحسين بن سعيد في كتاب (الزهد) عن عليِّ بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي شيبة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال ـ في حديث: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).
وأبو شيبة مجهول.
والحديث 15 حديث مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنه قال: لا تجامعوا في النكاح على الشبهة، وقفوا عند الشبهة.. إلى أن قال: (فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).
وهذا الحديث ذكره صاحب الوسائل في كتاب النكاح وسنده هناك هو: عن الشيخ الطوسي في التهذيب بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى - صاحب نوادر الحكمة وسند الشيخ إليه صحيح - عن هارون بن مسلم - ثقة - عن مسعدة بن زيادة - ثقة -.
والحديث 57 عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليهم السلام)، قال: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه).
والحديث في تفسير العياشي ولكن لا نعرف سند العياشي الى السكوني.
والحديث 1 من الباب9 وهو مقبولة عمر بن حنظلة وفي ذيلها: (.. قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)
والحديث 35 يوريه صاحب الوسائل عن سعد بن هبة الله الراوندي:
وعنه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إنَّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلِّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه).
ولا بد من مراجعة طريق صاحب الوسائل الى رسالة الراوندي.
هذه ما ذكره صاحب الوسائل ولعل هناك روايات أخرى تدخل في هذه الطائفة، وتقريب الاستدلال بها هو أن يقال إنها ظاهرة في وجوب التوقف عند الشبهة والشك في التكليف وتقول إنَّ ارتكاب الشبهة يساوق الاقتحام في الهلكة وهو معنى وجوب الاحتياط في الشبهات.