الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/03/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة / ما استُدل به للاحتياط/ الدليل العقلي

كان حاصل جواب السيد الخوئي قده على الاعتراض على دعوى الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي هو أنَّ التنجيز في الأمارات لا يتوقف على الوصول - حتى يقال حيث أنَّ الأمارة لم تصل عند قيام العلم الإجمالي فلا تكون منجزة ويبقى العلم الإجمالي على المنجزية لكلا الطرفين، غاية الأمر أنَّ بعض الأطراف قامت فيه الأمارة المعتبرة على التكليف فتنجَّز بمنجز آخر وأما باقي الأطراف فتبقى على منجزية العلم الإجمالي فيجب فيها الاحتياط - وإنما يكفي في تنجيزها أن تكون في معرض الوصول بمعنى أنَّ المكلف لو بحث عنها لعثر عليها عادة، وفي محل الكلام الأمارات في معرض الوصول حين قيام العلم الإجمالي وذلك بدليل وصولها الى المكلف بعد ذلك بحسب الفرض، فإذا كانت كذلك نجَّزت التكليف الذي قامت عليه وكانت مقارنة للعلم الإجمالي، وهذا ما يمنع من منجزيته ويوجب انحلاله حكماً، وهو نظير ما لو فرض وصولها حين قيام العلم الإجمالي.

الجواب الثالث: ويحتمل أن يكون هو مقصود السيد الخوئي قده ، وحاصله:

إنَّ احتمال وجود إمارات تدل على أحكام إلزامية هو احتمال منجَّز على المكلف لأنه من الشبهة قبل الفحص، وفي المقام العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة هو من الشبهات قبل الفحص، وهذا الاحتمال كافٍ في تنجُّز تلك التكاليف على المكلف وإن لم تصل إليه الأمارة، وهذا ما يوجب انحلال العلم الإجمالي حكماً.

والحاصل: إنَّ المفروض وصول الأمارات المعتبرة الى المكلف بعد العلم الإجمالي، وهذا يعني أنها موجودة قبل ذلك، مما يعني أنَّ الشبهات التي قامت الأمارة عليها يكون التكليف فيها منجَّزاً من البداية لأنها شبهات قبل الفحص، ولا تكون مورداً للأصول المؤمِّنة ولا يكون العلم الإجمالي فيها منجِّزاً لمعلومه على كل تقدير وبذلك يتحقق الانحلال الحكمي.

هذا هو الجواب عن هذا الاعتراض، ومنه يبدو أنَّ الانحلال الحكمي متحقق في المقام وإن منعنا من الانحلال الحقيقي.

هذا هو التقريب الثاني للدليل العقلي المُستدل به على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية.

التقريب الثالث: وهو ما يدعى من أنَّ احتمال التكليف فيه احتمال الوقوع في الضرر على تقدير المخالفة، كارتكاب الشبهة التحريمية مثلاً، أي دعوى الملازمة بين احتمال التكليف وبين احتمال الوقوع في الضرر على تقدير المخالفة هذه الصغرى، والكبرى تقول إنَّ العقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل - فضلاً عن المظنون - وهو يعني وجوب الاحتياط عقلاً، وهو المطلوب.

والملازمة المذكورة في الصغرى هي باعتبار أنَّ الحكم الشرعي علة لاستحقاق العقاب على تقدير المخالفة، كما أنه علة لاستحقاق الثواب على تقدير الموافقة، واحتمال العلة يلازم احتمال المعلول، وبناءً عليه يكون الظن بالحكم الشرعي يستلزم الظن بالوقوع في الضرر الدنيوي أو الأخروي على تقدير المخالفة، أما الضرر الدنيوي فباعتبار أنَّ الوقوع في المفسدة أو فوات المصلحة يترتب على مخالفة التكليف، وأما الضرر الأخروي فلترتب العقوبة على مخالفة التكليف الإلزامي واحتمال التكليف يستلزم احتمال العقاب على تقدير المخالفة، فتثبت الصغرى بلحاظ الضرر الأعم من الدنيوي والأخروي.

وأما الكبرى - وهي لزوم دفع الضرر المحتمل - فهي مما يستقل به العقل، بل قالوا انها لا تتوقف على القول بالتحسين والتقبيح العقليين لأنه مدرك فطري جُبِل عليه الانسان، ولذا يؤمن به من حتى من ينكر التحسين والتقبيح العقليين.

وأجيب عنه: تارة يقصد بالضرر المحتمل الضرر الأخروي وأخرى يقصد به الضرر الدنيوي، فإن أُريد الأول فالكبرى تامة لكن الصغرى ممنوعة لأنها مبنية على الملازمة بين التكليف الواقعي المحتمل وبين إستحقاق العقاب على مخالفته وهي غير تامة لوجهين:

الأول لأنه يقتضي وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية حتى بعد الفحص لعدم زوال احتمال التكليف الواقعي بالفحص.

الثاني إنَّ إستحقاق العقاب من لوازم تنجُّز التكليف وليس من لوازم وجوده الواقعي، فإذا فرضنا عدم تنجُّز التكليف على المكلف فلا تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب.

وإن أُريد به الثاني - أي الضرر الدنيوي - فكلتا المقدمتين ممنوعتان على بعض التقادير والكبرى ممنوعة فقط على البعض الأخر، وتوضيح ذلك:

الشبهة تارة تكون تحريمية وأخرى تكون وجوبية، والتحريم على نحوين فتارة ينشأ من مفسدة نوعية كالمفسدة في القتل التي قد لا يقع فيها الفاعل نفسه، وأخرى ينشأ من مفسدة شخصية كحرمة شرب السم، فإذا كانت الشبهة وجوبية فلا يلزم من المخالفة إلا فوات المصلحة الموجودة في المتعلق، ولا يصدق الضرر والوقوع في المفسدة على فوات المصلحة، وبناءً عليه تكون الصغرى ممنوعة والكبرى أيضاً ممنوعة، أما منع من الصغرى فباعتبار عدم الظن بالضرر، وأما منع الكبرى فباعتبار أنَّ العقل لا يستقل بلزوم جلب المصلحة المحتملة.

وأما الشبهات التحريمية فإن كانت ناشئة من مفاسد نوعية فكلتا المقدمتين ممنوعتان، أما الصغرى فباعتبار أنه ليس في ارتكاب حرام من هذا القبيل ضرر دنيوي يعود على الفاعل، وأما الكبرى فلأنَّ العقل لا يستقل بلزوم دفع المفسدة النوعية حتى لو سلَّمنا بأنه يستقل بلزوم دفع المفسدة الشخصية.

وإن كانت الحرمة ناشئة من مفاسد شخصية فالصغرى تامة لأنَّ احتمال حرمة من هذا القبيل يستلزم احتمال الوقوع في المفسدة الدنيوية لكن الكبرى غير تامة لأنَّ العقل لا يستقل بلزوم دفع المفسدة الدنيوية المحتملة أو المظنونة.