الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/03/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الاستصحاب

 

تتمة

أجيب عن جواب السيد الخوئي قده المتقدم بالنقض تارة وبالحل أخرى، أما النقض فبأن لازم ما ذكره – من عدم المنع من جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية - هو أنَّ شبهة المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل الزائد التي التزم بها في الشبهات الحكمية ثم انتهى الى عدم جريان استصحاب المجعول واردة هنا أيضاً، فما ذكره في الشبهة الحكمية من الشك حكم الوطء بعد النقاء وقبل الغسل وحكمه بجريان استصحاب المجعول - وهو حرمة الوطء المتيقنة قبل النقاء - والذي يعارضه استصحاب عدم الجعل الزائد لأنَّ الحرمة بعد النقاء جعل زائد، وهذان استصحابان متعارضان في الشبهات الحكمية جارٍ هنا أيضاً فإنَّ لازمه هو سريان شبهة المعارضة الى الشبهة الموضوعية، وبيان ذلك:

بعد البناء على انحلال الحكم في القضية الحقيقية الى أحكام متعددة بعدد أفراد الموضوع يمكن أن نتصور الشك في الجعل الزائد، فنقول نشك في هذا المائع هل هو خمر أم خل؟ ومع افتراض أنَّ الحكم لحالته السابقة هو الحرمة، فمقتضى استصحاب المجعول هو حرمة شربه، وفي مقابله استصحاب عدم الجعل الزائد وهو عدم جعل الحرمة في هذه الصورة التي افترضنا فيها الشك في حرمة الخمر وذلك إذا فرضنا إضافة شيء إليه يقلبه خلاً، لأنَّ المتيقن من جعل الحرمة هو جعلها للخمر وأما ما زاد عليه فمشكوك، فاستصحاب عدم جعل الحرمة هنا معارض باستصحاب المجعول، ولازمه الحكم بعدم جريان استصحاب الحكم حتى في الشبهة الموضوعية، وهذا لا ما يمكن الالتزام به، إذ لا إشكال في جريانه فيها، بل الشبهة الموضوعية هي مورد روايات الاستصحاب فتكون هي القدر المتيقن من جريان الاستصحاب،

فهل يمكن الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات مطلقاً لا الحكمية ولا الموضوعية؟!

هذا ما لا يلتزم به قدس سره جزماً.

وأما الحل فبأن يقال إنَّ التعدد الانحلالي للمجعول باعتبار تعدد الموضوع لا يوجب تعدداً في الجعل فإنه قضية حقيقية واقعية غير قابلة للتعدد بتكثر أفراد الموضوع، فبلحاظ الجعل لا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لأنَّ التعدد فيها هو للمجعول، ومع الشك في فرد من أفراد الموضوع يكون شكاً في مجعول زائد فيجري استصحاب المجعول ولا يعارض باستصحاب عدم الجعل الزائد، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية فيمكن توهم المعارضة فيها باعتبار أنَّ التكثر فيها في الجعل نفسه، فالشك في حرمة أكل لحم الأرنب يعني الشك في الجعل الزائد على تقدير ثبوت الحرمة له ومن هنا تنشأ شبهة المعارضة بين استصحاب المجعول وبين استصحاب عدم الجعل الزائد.

ومنه يظهر أنه لا مانع من استصحاب عدم الجعل في الشبهات الحكمية بينما لا مجال لهذا الاستصحاب في الشبهات الموضوعية، وما ذكره السيد الخوئي قده من تصوير لاستصحاب عدم الجعل غير تام.

كما يظهر أيضاً أنَّ إجراء البراءة في الشبهات الموضوعية يكون بلحاظ المجعول لا بلحاظ الجعل.

الى هنا يتم الكلام عن البراءة وأدلتها وقد تبين أنَّ هناك ما يدل على البراءة الشرعية بنحو يكون حاكماً على أدلة الاحتياط لو تمت، وحاصله هو أنَّ دليل البراءة ورد بلسانين:

الأول: إنَّ موضوع البراءة هو الجهل بالحكم الواقعي.

الثاني: أنَّ موضوع البراءة هو الجهل مطلقاً سواءً كان بالحكم الواقعي أو بالحكم الظاهري.

واللسان الأول هو المعارض لدليل الاحتياط لأنّه يجعل الاحتياط في مورد الجهل الحكم الواقعي فيتعارضان، وأما اللسان الثاني فلا يعارضه بل يكون دليل الاحتياط حاكماً عليه لأنه يفيد حكماً ظاهرياً بالاحتياط فيصبح المكلف عالماً بالحكم الظاهري، فيرتفع موضوع دليل البراءة، وقد تقدم أنَّ بعض أدلة البراءة التامة سنداً ودلالة وتدل على البراءة باللسان الأول فتكون معارضة لأدلة الاحتياط لو تمت.

أدلة الاحتياط

وأهمية هذا البحث تتجلى في فرض عدم ثبوت أدلة البراءة باللسان الأول، فلابد من بحث أدلة الاحتياط، والكلام فيها يقع في مقامين:

المقام الأول في وجوب الاحتياط عقلاً.

المقام الثاني في وجوب الاحتياط نقلاً.

أما المقام الأول فيقرب بتقريبين:

التقريب الأول: وهو المذكور في الكفاية وغيرها وكذا أشير إليه في كلمات المتقدمين وهو دعوى أنَّ الأصل في الأفعال غير الضرورية قبل الشرع هو الحظر، وأنَّ العقل لا يستقل بغير الحظر، أو نقول أنَّ الأصل فيها هو التوقف بمعنى عدم استقلال العقل بالحظر كما لا يستقل بالإباحة في غير الأفعال الضرورية.

وأما دليل هذا الأصل فهو ما ذكروه من استقلال العقل بالمنع من التصرفات غير الضرورية في سلطان المولى، لأنَّ العبد وأفعاله وسائر شؤونه ملك للمولى فلابد من إذنه في كل تصرف غير ضروري.

وبعبارة أخرى إنَّ تصرف العبد في أفعاله بما يشاء من دون إذن المولى يعتبره العقل خروجاً عن زي الرقية ومقتضى العبودية، والأصل فيها هو الحظر أو التوقف.

وأضافوا لما تقدم – كما في الكفاية – مقدمة أخرى وهي أنه لم يثبت شرعاً الإذن والترخيص في الفعل لأنَّ ما دلَّ على الترخيص والاباحة بعد الشرع معارض بما دلَّ على وجوب الاحتياط شرعاً، فيتساقطان والمرجع بعد التساقط الى أصالة الحظر المقررة قبل الشرع، وبهذا يثبت أنَّ الأصل هو الحظر قبل الشرع وبعده فيجب الاحتياط عقلاً.

جواب المحقق الخراساني قده

وأجاب المحقق الخراساني عنه بوجوه:

الجواب الأول: إنَّ ما ذُكر محل خلاف وإشكال فلا يصح الاستدلال بأصالة الحظر على الاحتياط، ولو صح ذلك لصح الاستدلال بالقول الآخر – أي أصالة الاباحة – على عدم وجوب الاحتياط! فلابد أن يكون الاستدلال بأمر مُسلَّم ولا خلاف فيه حتى يكون ملزماً للطرف الآخر.

وفيه: إنَّ كون المسألة خلافية لا يبطل الدعوى، والسر في ذلك هو أنَّ الدعوى وجدانية لا برهانية ولا يمكن لأحد الطرفين أن يبطل دعوى الآخر ما دامت كذلك.