الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الاستصحاب

 

التقريب الثالث للاستصحاب:

وهذا التقريب يلحظ ما قبل تحقق الشرائط الخاصة التي يحتمل دخلها في التكليف، فلا تحقق للتكليف قبلها قطعاً، كما في مثال الشك في تحقق وجوب الحج بالبذل وذلك من جهة الشك في اشتراط التكليف به كما هو الحال في الاستطاعة، وهذا شك في التكليف، فنستصحب عدم التكليف المتيقن قبل البذل.

وهذا التقريب أفضل حالاً من التقريبين السابقين وذلك باعتبار عدم ورود إشكال تعدد الموضوع عليه لا بلحاظ المكلف ولا بلحاظ تعدد العدم فإنَّ العدم هنا عدم نعتي منسوب الى الشارع كما هو واضح، نعم لابد من إحراز وحدة الموضوع لأنه من شرائط جريان الاستصحاب، وفي المثال المتقدم الموضوع واحد وهو نفس المكلف وأما البذل وعدمه فليس من الخصوصيات المقومة لموضوع عدم وجوب الحج وإنما هي من أحوله الطارئة عليه، فالمكلف لم يُبذل له الحج سابقاً فلا يجب عليه الحج، ثم بُذل له ذلك فيحصل الشك في وجوب الحج عليه، وهذا موضوع واحد وهو نفس المكلف وأما البذل وعدمه فهو من الحالات الطارئة على الموضوع الواحد التي لا توجب تعدده.

تنبيهات حول الاستدلال بالاستصحاب على البراءة، وهي أمور:

الأمر الأول: قد يقال إنَّ إستصحاب عدم التكليف على القول بجريانه –كما هو الظاهر – سوف يلغي دليل البراءة، وذلك باعتبار أنَّ إستصحاب عدم التكليف يكون رافعاً لموضوع دليل البراءة وهو الشك في التكليف، واستصحاب عدم التكليف يحرز عدم التكليف تعبداً فيرتفع بذلك الشك فيكون حاكماً على دليل البراءة، وحيث أنّ الاستصحاب يجري في جميع الشبهات الحكمية فيلزم من ذلك إلغاء دليل البراءة ولغويته.

وأجيب عنه: إنَّ إستصحاب عدم التكليف لا يوجب لغوية دليل البراءة وذلك لوجود موارد تجري فيها البراءة دون الاستصحاب وهي:

الأول: موارد تعارض الاستصحابين كموارد توارد الحالتين، كتعارض إستصحاب التكليف مع إستصحاب عدم التكليف، ومع تعارضهما وتساقطهما يبقى المورد بلا مؤمن فيمكن الرجوع الى البراءة.

الثاني: ما إذا كان الأثر المطلوب مترتباً على الاباحة بعنوانها، فلا مناص من الرجوع الى أصالة الاباحة لترتيب ذلك الأثر، إذ لا يكفي لترتيبه إستصحاب عدم المنع – أي عدم الحرمة – إلا بناءً على القول بالأصل المثبت.

الثالث: دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، كموارد الشك في جزئية جزء في المركب أو الشك في شرطية شرط فيه، فهنا تجري البراءة لنفي وجوب الزائد والاكتفاء بالأقل، ولا يجري فيه الاستصحاب، فإنَّ الاستصحاب المتصور هنا والذي يُفيد التأمين هو إستصحاب عدم التقييد ولكنه معارض باستصحاب عدم الاطلاق، فالمرجع لإثبات التأمين هو البراءة.

والحاصل: في هذا المورد المفروض أنَّ التكليف بالأقل معلوم على كل تقدير إلا أنَّ أمره مردد بين أن يكون مطلقاً بالإضافة الى الزائد فيُكتفى بالأقل أو مقيداً به فيجب الأكثر، واستصحاب عدم التقييد لإثبات الاكتفاء بالأقل معارض باستصحاب عدم الاطلاق لإثبات التقييد وعدم الاكتفاء بالأقل، فيتعارضان ويتساقطان ويرجع الى البراءة.

فتبين من ذلك أنَّ دليل البراءة له موارد تخصه ولا يكون لغواً.

 

ويلاحظ عليه:

أولاً: أنَّ ما ذُكر لا يتم في جميع هذه الموارد، ففي المورد الثاني يمكن أن يجري الاستصحاب في الاباحة المتيقنة سابقاً إما قبل البلوغ أو قبل الشريعة أو قبل تحقق الشرائط الخاصة التي يحتمل دخلها في التكليف، وليس المستصحب هو عدم المنع لإثبات الاباحة حتى يكون الأصل بلحاظها مثبتاً وإنما نستصحب الاباحة المتيقنة سابقاً بأحد الوجوه السابقة وحينئذ لا مشكلة في ترتيب ذلك الأثر.

وثانياً: بل نقول إنَّ الأثر مترتب على الاباحة الواقعية بعنوانها والظاهر أنه لا يثبت بأصالة الاباحة ولابد من الاستصحاب، وذلك لأنَّ أصالة الاباحة ليست أصلاً محرزاً يحرز الاباحة الواقعية لترتيب هذا الأثر وإنما هو أصل عملي بحت، بخلاف الاستصحاب فإنه أصل عملي محرز وناظر الى الواقع فيحرز الاباحة الواقعية تعبداً ويترتب عليه الأثر.

وكذا الكلام في المورد الثالث فالظاهر أنَّ ما ذُكر فيه غير تام، وذلك باعتبار عدم جريان إستصحاب عدم الاطلاق في حد نفسه فلا يعارض استصحاب عدم التقييد فيجري الأخير لإثبات الاكتفاء بالأقل، ونستغني به عن الرجوع الى أصالة البراءة، والسر في عدم جريان استصحاب عدم الاطلاق هو عدم ترتب أثر عليه، وذلك لأنه إن كان المقصود به إثبات التقييد وبالتالي إثبات عدم الاكتفاء بالأقل فهذا أصل مثبت، وإن كان المقصود منه إثبات الأثر مباشرة بلا توسط إثبات التقييد فهو خلف الفرض فإنَّ المفروض ترتب الأثر – وهو عدم الاكتفاء بالأقل أو وجوب الاتيان بالأكثر - على عنوان التقييد لا على عنوان عدم الاطلاق.

وهذا الكلام مبني على مبنى المُعترض في مسألة التقابل بين الاطلاق والتقييد وأنه من تقابل الضدين، وأما على المبنى الصحيح وهو تقابل النقيضين - لأنَّ الاطلاق عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد، والتقييد هو لحاظ القيد – فيقال إن استصحاب عدم الاطلاق يجري لأنه بحسب هذا المبنى يرجع الى استصحاب التقييد فإنَّ الاطلاق يعني عدم التقييد فاستصحاب عدم الاطلاق يعني استصحاب عدم عدم التقييد وهو يعني استصحاب التقييد، وهذا له أثر بحسب الفرض.

فالجواب المتقدم إنما يصح على مبنى تقابل الضدين بين الاطلاق والتقييد وأما على المبنى تقابل النقيضين فالاعتراض بتعارض استصحاب عدم التقييد مع استصحاب عدم الاطلاق صحيح.