45/03/15
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الاستصحاب
التقريب الثاني: وهو ناظر الى ما قبل الشريعة فيقول لم يكن التكليف ثابتاً قبل الشريعة ومع الشك في جعله يستصحب عدمه.
واعترض عليه باعتراضات:
الأول: إنّ إستصحاب عدم الجعل - وكذا إستصحاب الجعل - لا يجري لأنه مثبت، وذلك لأنَّ الغرض المراد إثباته باستصحاب عدم الجعل لا يترتب على نفي الجعل وإنما يترتب على نفي المجعول وهو التنجيز والتعذير، فإن كان المراد استصحاب عدم الجعل استطراقاً الى نفي المجعول لإثبات التأمين والمعذرية فهو أصل مثبت، وإن كان المراد إثبات نفي الجعل فقط فهذا لا أثر له، وهذا كاستصحاب الجعل لإثبات التنجيز الذي لا أثر له وإنما الأثر للمجعول.
وهذا اعتراض عام ذكره المحقق النائيني قده وبه دفع إشكال المعارضة بين إستصحاب عدم الجعل وبين إستصحاب المجعول، ومثاله الحائض إذا طهرت فقبل النقاء يحرم وطؤها فيجري إستصحاب حرمة الوطء لما بعد النقاء، وهذا إستصحاب المجعول، ولكنه معارض باستصحاب عدم جعل الحرمة بعد النقاء فالأول يثبت الحرمة والثاني ينفي جعلها.
وقد التزم السيد الخوئي قده بهذا التعارض وقال إنّ استصحاب المجعول لا يجري لأنه معارض دائماً باستصحاب عدم الجعل الزائد، وعلى هذا الأساس منع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وهذا ما دفعه المحقق النائيني قده بعدم جريان إستصحاب عدم الجعل لأنه أما أصلٌ مثبت أو لا فائدة فيه كما تقدم، وعليه يجري استصحاب المجعول بلا معارض، وهذا ينتج جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، ولكن السيد الخوئي قده لا يرى استصحاب عدم الجعل أصلاً مثبتاً ولا يمنع من جريانه فيعارض إستصحاب المجعول ويمنع من جريانه.
والصحيح في الجواب إن يقال إنَّ إستصحاب عدم الجعل ليس أصلاً مثبتاً فلا مانع من جريانه، وكذا إستصحاب الجعل، وذلك باعتبار أنَّ الأثر المراد إثباته - هو التنجيز باستصحاب الجعل والتعذير باستصحاب عدمه - يترتب على وصول الجعل للمكلف مع تحقق الموضوع، ولا إشكال في ثبوتهما تارة بالوجدان وأخرى بالتعبد وثالثة بالتلفيق بأن يثبت أحدهما بالتعبد والآخر بالوجدان، واستصحاب الجعل ثابت بالتعبد فإذا ثبت الموضوع بالوجدان كالاستطاعة فبضم التعبد الى الوجدان يترتب الأثر وهو التنجيز، والتنجيز هنا أثر لاستصحاب الجعل نفسه ولا يصح القول إنَّ إستصحاب الجعل ليس له أثر، وليس أصلاً مثبتاً لأنه لا يثبت لوازمه العقلية وإنما يُثبت المستصحب نفسه وهو الجعل غاية الأمر أنَّ الأثر لا يترتب عليه وحده وإنما يترتب عليه مع تحقق الموضوع، هذا في إستصحاب الجعل ونفس الكلام يقال في إستصحاب عدم الجعل فالتعذير والتأمين يترتب على نفي الجعل، فإذا ثبت نفي الجعل ثبت التأمين بلا إشكال، من دون الاستطراق الى نفي المجعول، فالتنجيز في المثال الأول لا يتوقف على إثبات المجعول، وكذا التعذير في المثال الثاني لا يتوقف ثبوته على نفي المجعول وباستصحاب الجعل يكون أصلاً مثبتاً، بل كل منهما يترتب على نفس الجعل إثباتاً أو نفياً، ولكن التنجيز يثبت بضميمة الوجدان المثبت لتحقق الموضوع خارجاً وأما التأمين فيثبت بمجرد إثبات عدم الجعل تعبداً بالاستصحاب ولا يتوقف على إثبات المجعول.
هذا مضافاً الى ما تقدم ذكره مراراً من أنَّ المجعول اصطلاح يراد به فعلية الحكم وما يصدر من الشارع هو الجعل فقط وأما المجعول فهو الجعل نفسه ولكن بعد فرض تحقق الموضوع.
الاعتراض الثاني: إنَّ عدم الجعل المتيقن في زمان ما قبل الشريعة هو عدم أزلي غير مستند الى الشارع ويعبر عنه بالعدم المحمولي، والعدم المشكوك الذي نريد إثباته بالاستصحاب هو العدم النعتي أي العدم المنسوب الى الشارع أي العدم بعد تحقق الشريعة، ويقال إنّ هذا الاستصحاب لا يجري لوجهين:
الأول: إنَّ العدم المتيقن مرتفع قطعاً بوجود الشريعة ولا احتمال لبقائه، والعدم المشكوك لا يقين به سابقاً بل هناك يقين بعدمه، فالمتيقن مقطوع الارتفاع والمشكوك لا يقين بوجوده سابقاً فكيف يجري الاستصحاب؟
الثاني: ومع التنزل وفرض احتمال بقاء العدم السابق فالاستصحاب لا يجري لأنه أصل مثبت، لأنَّ المقصود باستصحاب عدم التكليف قبل الشريعة هو إثبات العدم النعتي المنتسب الى الشارع، ومن الواضح أنَّ إستصحاب العدم المحمولي لإثبات إضافته الى الشارع وانتسابه إليه يعتبر مثبتاً لأنَّ العدم النعتي على هذا التقدير لازم للعدم الثابت قبل الشريعة وهذا لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب.
وأجاب السيد الخوئي قده عن هذين الوجهين بجوابين:
الجواب الأول إنَّ العدم المتيقن سابقاً هو عدمٌ نعتي وليس عدماً محمولياً لأنَّ المستصحب هو عدم التكليف المتيقن في أول الشريعة لا قبلها، وهو متيقن لأنَّ الأحكام تدريجية الصدور، وعليه يرد كلا الاعتراضين، أما الأول القائل بأنَّ متيقن غير محتمل البقاء فجوابه أنَّ المتيقن هو العدم النعتي وهو محتمل البقاء ومع الشك يجري فيه الاستصحاب.
وأما الثاني وهو إشكال المثبتية فمندفع أيضاً لأنَّ المستصحب هو العدم النعتي لإثباته نفسه وليس المستصحب هو العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي كما ذُكر.
وهذا الجواب يدفع كلا الاعتراضين.
الجواب الثاني: أن يقال سلّمنا أنَّ العدم المتيقن قبل الشريعة غير منتسب الى الشارع لكن انتسابه الى الشارع يثبت بنفس التعبد الاستصحابي وذلك باعتبار أنَّ الانتساب من الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب وليس من الآثار المترتبة على المُستصحب حتى يكون أصلاً مثبتاً، وتخريج ذلك كما سيأتي في مباحث الاستصحاب هو أنَّ الاستصحاب مفاد أمارة وهي روايات زرارة وهي حجة في مثبتاتها فما يترتب على نفس الاستصحاب من الآثار العقلية والتكوينية والعادية لا محذور في إثباتها.
وهذا الجواب يدفع الوجه الثاني خاصة.