الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/03/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الاستصحاب

 

كان الكلام في الاعتراضات الخاصة على إجراء الاستصحاب لإثبات البراءة وتحديداً في التقريب الأول وهو استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ، والمراد من التكليف هنا المجعول فيستصحب عدم المجعول الثابت يقيناً.

والاعتراض الأول يقول إنَّ عدم التكليف الثابت قبل البلوغ غير عدم التكليف المراد إثباته بالاستصحاب، أي المتيقن غير المشكوك، لأنَّ الأول هو عدم التكليف في مورد غير قابل للتكليف والمراد إثباته هو عدم التكليف في المورد القابل له وهما متغايران، فالمتيقن لا شك في بقائه لارتفاعه بالبلوغ والمشكوك غير متيقن سابقاً، بل المتيقن عدمه سابقاً.

وأجاب عنه السيد الخوئي قده بجوابين:

الجواب الأول: إنّ الاشكال إنما يرد في الصبي غير المميز وأما إذا لاحظنا الصبي المميز فعدم التكليف فيه هو عدم التكليف في المورد القابل للتكليف، وهذا نفي للتكليف شرعاً ومن باب الامتنان كما هو الظاهر من حديث رفع القلم، فلا يرد هذا الاعتراض.

ولازم هذا الجواب هو الالتزام باختصاص حديث رفع القلم بخصوص الصبي المميز، لأنَّ الرفع فيه امتناني شرعي، ولا يشمل الحديث الصبي غير المميز لأنَّ رفع التكليف عنه ليس من باب الامتنان لأنه غير قابل للتكليف أصلاً.

والظاهر أنه لابد من الالتزام بهذا الاختصاص وإلا لزم الوقوع في أحد محذورين فإما أن نُبقي الحديث على ظاهره - وهو وروده مورد الامتنان وأنَّ الرفع فيه شرعي - وإما أن نرفع اليد عن ظاهره، وعلى الأول فمع الالتزام بعمومه يلزم المحذور لأنَّ الصبي غير المميز غير قابل للتكليف، وعلى الثاني أي نرفع اليد عن ظهوره ونقول إنه ناظر الى اللاحرجية العقلية وأنَّ الرفع ليس رفعاً شرعياً فلا يمكن الالتزام بالشمول أيضاً لأنه ذلك لا يصح في الصبي المميز، فلابد من الالتزام بما ذكره السيد الخوئي قده من أنَّ الحديث مختص بالصبي المميز، فهذا الجواب عن الاعتراض الأول تام.

الجواب الثاني: إنَّ العدم المتيقن سابقاً وإن كان عدماً أزلياً غير منتسب الى الشارع ولكن يثبت انتسابه الى الشارع بنفس الاستصحاب، لا بالمستصحب - وهو عدم التكليف - حتى يقال إنه أصل المثبت، وسيأتي في مباحث الاستصحاب أنَّ اللوازم التي لا تثبت بالاستصحاب هي اللوازم العقلية أو التكوينية أو العادية للمستصحب كنبات اللحية اللازم لحياة زيد الثابتة بالاستصحاب، وأما اللوازم العقلية المترتبة على نفس التعبد الاستصحابي فلا إشكال في ثبوتها من قبيل التنجيز والتعذير، وفي محل الكلام إنتساب العدم الى الشارع من لوازم الاستصحاب فعدم التكليف وإن كان غير منتسب الى الشارع لأنه عدم أزلي إلا أنه يمكن إثبات انتسابه الى الشارع بالاستصحاب لأنه من آثاره وليس من آثار المستصحب.

ويلاحظ عليه: أنَّ السيد الخوئي قده فسَّر إشكال المحقق النائيني قده بمسألة انتساب عدم التكليف الى الشارع أو عدم انتسابه إليه، بينما الاشكال من جهة أخرى، كما أنَّ الأثر يترتب على عدم التكليف سواءً كان منتسباً الى الشارع أو لم يكن كذلك، والاشكال من جهة تعدد العدم فإنَّ عدم التكليف السابق غير عدم التكليف اللاحق، فالأول ثابت بملاك عدم قابلية المورد للتكليف والثاني ثابت بملاك قبول المورد للتكليف، والأول ارتفع قطعاً بالبلوغ، والثاني لا يقين بثبوته سابقاً فلا يمكن إجراء الاستصحاب.

والحاصل: إنَّ هذا الجواب يوحي بأنَّ الإشكال من جهة الانتساب وانه يشترط إنتساب العدم الى الشارع في جريان الاستصحاب بينما هذا ليس شرطاً لترتب التأمين على العدم لوضوح ترتبه ولو لم يكن منتسباً الى الشارع، وإنما الإشكال من جهة تعدد العدم.

هذان جوابان عن إشكال المحقق النائيني قده والصحيح منهما الأول لكنه يجري في خصوص الصبي غير المميز.

الجواب المختار:

والصحيح في الجواب هو إنكار تعدد العدم فإنَّه لا يتعدد بتعدد ملاكه وإنما يتعدد بالإضافة كعدم زيد وعدم عمرو، والتعدد هنا في الملاك فقط لا فيما يضاف إليه العدم، فالعدم واحد مستمر رغم كونه ثابت بداية بملاك عدم قابلية المورد للتكليف وفي النهاية بملاك رفع الشارع للتكليف امتناناً لكنه لا يوجب تعدد العدم حتى يعترض بأن المتيقن غير المشكوك.

الاعتراض الثاني: إنَّ عدم التكليف قبل البلوغ ثابت بحيثية الصبا فهل هذه الحيثية تقييدية أو تعليلية، وبعبارة أخرى هل هذه الحيثية مقومة للموضوع أو ليست كذلك؟

وهذا الاعتراض يدعي أنها حيثية تقييدية مقومة للموضوع، بمعنى أنَّ موضوع الحكم أُخذ فيه حيثية الصبا، وهذه الحيثية ارتفعت بالبلوغ قطعاً فيرتفع معها الحكم كذلك، فلو ثبت عدم تكليف بعد البلوغ لكان شيئاً آخر غير ما ثبت سابقاً، وهذا يعني تعدد الموضوع، أو قل إنَّ القضية المتيقنة غير القضية المشكوكة، فالمتيقنة هي عدم تكليف الصبي والصبا حيثية تقييدية فيه، والمشكوكة عدم تكليف البالغ، فالموضوع متعدد ومعه لا يجري الاستصحاب.

وبعبارة أخرى إنَّ عدم التكليف لو ثبت بعد البلوغ فليس استمراراً لعدم التكليف السابق وإنما هو ثابت لموضوع جديد.

وأضاف السيد الخوئي قده إلى هذا الاعتراض إنّ حيثية الصبا لو لم يثبت لدينا أنها حيثية تقييدية فلا أقل من احتمال ذلك، وهو مانع من جريان الاستصحاب أيضاً لأنَّ المعتبر فيه إحراز وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

وهذا الاعتراض مرجعه الى دعوى تعدد العدم عرفاً - لا حقيقة وواقعاً - وذلك لأنَّ العرف يرى أنَّ حيثية الصبا حيثية تقييدية في هذا التكليف، وهذا المقدار كاف في منع جريان الاستصحاب لأنّ دليله لفظي مُنزَّل على الفهم العرفي.

والتعليق عليه:

قد يتأمل في دعوى تعدد الموضوع عرفاً إذا يصح بالوجدان أن يقول المكلف أنَّ لحم الأرنب كان مباحاً لي وهو الآن كما كان، من دون ارتكاب أي تجوز ومسامحة، وهذه قرينة على عدم تعدد الموضوع بنظر العرف، وهذا يؤدي الى التشكيك في دعوى تعدد الموضوع عرفاً.

ويضاف الى ذلك نكتة أخرى وهي أنَّ الكلام ليس في الاباحة حتى يشكل بتعدد الموضوع وإنما الكلام في عدم التكليف الثابت قبل البلوغ ولو بنحو العدم الأزلي وهذا لا يتوقف على ثبوت الموضوع، فلا يرد فيه الاشكال بتعدد الموضوع.

هذه هي الاعتراضات المرتبطة بالتقريب الأول للاستصحاب.