الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/03/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/الاستصحاب

 

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني

إنّ الاستصحاب وإن لم يكن حاكماً على البراءة العقلية ولا وارداً عليها لكن هذا لا يمنع من جريان الاستصحاب كما هو الحال في الاستصحاب مع البراءة الشرعية، فاستصحاب عدم التكليف يجري مع البراءة الشرعية، وهذا يعني أنَّ كُلاً منهما يجري ويثبت التأمين ولا ضير في إثبات التأمين بملاكين وسببين، ويكون من قبيل اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ولا محذور في ذلك.

 

وجوابه: إنَّ مجرد عدم منع قاعدة البراءة العقلية من جريان الاستصحاب لا يرفع الاعتراض إذ يقال إنَّ الأثر المراد إثباته بالاستصحاب لا يخلو إما أن يكون نفس الأثر الثابت بمجرد الشك وإما أن يكون غيره، فعلى الأول يرد الاعتراض بأنه تحصيل للحاصل، وعلى الثاني يقع السؤال عن الأثر الثابت بالاستصحاب، ولا شيء هنا غير التأمين، فهذا الجواب غير تام أيضاً.

 

الجواب الثالث وهو أن يقال إنَّ ما يثبت بالاستصحاب غير ما يثبت بالبراءة العقلية وإن اشتركا في الاسم - وهو التأمين والمعذرية - وذلك لأنَّ ما يثبت بقاعدة البراءة هو مرتبة ضعيفة من التأمين وما يثبت بالاستصحاب هو مرتبة شديدة منه، وهذا كافٍ في دفع محذور اللغوية، وليس هذا تحصيل للحاصل لأنَّ ما يثبت بمجرد الشك هو التأمين بملاك عدم بيان التكليف، وما يثبت بالاستصحاب هو التأمين بملاك بيان عدم التكليف، وهذا هو الجواب الصحيح.

 

تلخيص ما تقدم:

إنَّ الاستصحاب لا يرفع موضوع القاعدة العقلية بالرغم من جريانه، وأنَّ موضوع القاعدة هو عدم بيان التكليف وليس عدم البيان مطلقاً، وهذا الموضوع لا يرتفع ببيان عدم التكليف، فكل منهما يجري لتحقق موضوعه، أما البراءة العقلية فلعدم بيان التكليف، وأما الاستصحاب فلتحقق موضوعه وهو اليقين السابق بعدم التكليف والشك اللاحق فيه، فنستصحب عدم التكليف ويكون بياناً لعدم التكليف، وهذان ملاكان مستقلان لإثبات التأمين.

 

والظاهر أنَّ ترتب هذا التأمين هو ترتب وجداني واقعي وليس ترتباً تعبدياً، أما ترتبه على قاعدة البراءة فواضح لأنَّ موضوعها هو الشك وهو محرز بالوجدان، وأما ترتبه على الاستصحاب فبالوجدان أيضاً لما تقدم من أنَّ التأمين يترتب على نفس التعبد الاستصحابي لا على المُستصحب، والاستصحاب ثابت بالوجدان، بمعنى العلم بحكم الشارع بالبناء على بقاء الحالة السابقة إذا كنت على يقين سابق وشك لاحق، وهذا ثابت بالأدلة المعتبرة المنتهية الى القطع واليقين، وإشكال اللغوية وتحصيل الحاصل فقد تم جوابه.

 

ثمرة أخرى:

وهناك ثمرة أخرى تترتب على جريان الاستصحاب غير مترتبة على البراءة العقلية وهي إبراز الاستصحاب في قبال الأخبارين الذين يدعون وجود أدلة على وجوب الاحتياط عند الشك في التكليف، فإنَّ البراءة العقلية لا تصلح للتقدم على أخبار الاحتياط بل تكون محكومة لأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها، وأما الاستصحاب فيكون حاكماً على أدلة الاحتياط.

الاعتراض الثالث من الاعتراضات المشتركة:

ما أشار إليه الشيخ الأنصاري قده في رسائله وحاصله هو أنَّ المستصحب لابد أن يكون قابلاً للجعل الشرعي حتى يجري فيه الاستصحاب ويحكم به الشارع ولو ظاهراً، لكن الأمر العدمي غير قابل لذلك فإنَّ المستصحب هو عدم التكليف وهو أمر عدمي غير قابل للجعل فلا يجري فيه الاستصحاب.

وأما عدم كونه قابلاً للجعل الشرعي فإما من جهة كونه أمراً عدمياً فيكون أزلياً ولا تتعلق القدرة بالأمور الأزلية، بخلاف الأمور الوجودية الحادثة القابلة لتعلق القدرة بها.

فإن أراد ذلك فجوابه هو إنَّ القدرة على الوجود ملازمة للقدرة على العدم وإلا لكان الوجود ضرورياً وواجباً، والقدرة على العدم بمعنى القدرة على رفعه بالوجود، فهذا الوجه غير مقبول.

وإما باعتبار عدم قابلية عدم التكليف للجعل وذلك باعتبار أنَّ عدم التكليف يتحقق بمجرد عدم وجود علة التكليف ولا يحتاج الى جعل من الشارع، ومن هنا لا يجري فيه الاستصحاب، ولعل هذا الوجه هو مراده.

 

وبعبارة أخرى: إنَّ عدم التكليف كسائر الموضوعات الخارجية فكما لا يجري فيها الاستصحاب لأنها غير قابلة للجعل فكذلك عدم التكليف، ولذلك اشترطوا في جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية أن يترتب أثر شرعي على استصحابها، وأما مع عدم ترتبه فلا يجري فيها الاستصحاب، لأنَّ الموضوع الخارجي ليس قابلاً للجعل الشرعي، نعم هو قابل للتعبد به ظاهراً إذا ترتب عليه أثر شرعي، وعدم التكليف من هذا القبيل فهو غير قابل للجعل من قبل الشارع، نعم لا مانع من جريان الاستصحاب فيه إذا ترتب عليه أثر شرعي، ولكن عدم التكليف في محل الكلام ليس له أثر شرعي، وإنما له أثر عقلي وهو عدم إستحقاق العقاب فلا يجري فيه الاستصحاب.