الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

45/03/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الاستصحاب

الاستدلال على البراءة بالاستصحاب

الظاهر أنَّ أول من أشار الى هذا الوجه هو الشيخ الأنصاري قده، ويحتمل أن يكون منشؤه هو أن معظم أدلة البراءة تثبت براءة بمفاد قبح القعاب بلا بيان، وتقدم مراراً أنَّ البراءة الثابتة بهذا المفاد غير نافعة في قبال ما التزم به علماؤنا الأخباريين من وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية، فعلى تقدير تمامية الأدلة التي استدلوا بها على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية فالبراءة الثابتة بالأدلة السابقة لا تكون معارضة لها بل تكون محكومة لها، وذلك لأنَّ أدلة البراءة بهذا المفاد تثبت البراءة في حال عدم البيان من قِبل الشارع وأدلة وجوب الاحتياط تثبته وهو وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية، فتتقدم على أدلة البراءة، فالمطلوب في المقام إثبات براءة معارضة لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها، ومن هنا يحتمل أنَّ الشيخ ذكر الإستصحاب لهذا النكتة، وذلك لأنه لو تم لا يواجه هذه المشكلة فإنّ الاستصحاب يُقدم على أدلة الاحتياط كما هو واضح.

صيغ الاستصحاب المُستدل به على البراءة:

هناك عدة صيغ لهذا الاستصحاب فتارة يراد اجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشريعة، وأخرى يراد إجراؤه بلحاظ ما قبل البلوغ، وثالثة يراد إجراؤه بلحاظ ما قبل تحقق شراط التكليف، وبيانها:

الصيغة الأولى إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشريعة، وذلك باعتبار أنَّ الحكم في مرتبة الجعل والتشريع وإن لم يكن متقوماً بتحقق الموضوع خارجاً لكنه متقوم بفرض الموضوع وتقديره، ولذا تجعل الأحكام في هذه المرحلة على نهج القضية الحقيقية نحو ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ﴾ ولا إشكال في تحقق حكم بهذا الجعل، ولا إشكال في أنَّ هذا الجعل مسبوق بالعدم وهو عدمه بلحاظ ما قبل الفرض والتقدير، فهو كسائر الحوادث مسبوق بالعدم، فإذا شككنا في تحقق هذا الحادث أمكن إستصحاب حالته السابقة وهي عدمه.

الصيغة الثانية إجراء الإستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، والكلام هنا يقع في مرحلة المجعول – أي فعلية التكليف- وفي هذه المرحلة يتقوم التكليف بتحقق موضوعه في الخارج، ولا إشكال في أنَّ التكاليف في مرحلة المجعول لها موضوعها الخارجي، ومن جملة الشرائط العامة في التكليف البلوغ، فإذا شك البالغ في فعلية تكليف ما بالنسبة له أمكنه الالتفات الى زمان ما قبل البلوغ ويقول أنَّ التكليف لم يكن فعلياً قطعاً في ذلك لزمان وهو الآن كما كان وهذا استصحاب لعدم فعلية التكليف.

الصيغة الثالثة إجراء الاستصحاب بلحاظ عدم تحقق شرائط التكليف، فكل التكليف بلحاظ مرحلة المجعول لا يكون فعلياً إلا بعد تحقق شرائطه الخاصة، كوجوب الحج الذي لا يكون فعلياً إلا بتحقق شرائطه الخاصة كالاستطاعة، وقد يقع الشك في تحقق الشرائط الخاصة كما لو شك المكلف في أنّ البذل هل يحقق الاستطاعة أو لا ؟ فإن كان محققاً لها كان وجوب الحج فعلياً في حقه، وإن لم يكن محققاً لها لم يكن وجوب الحج فعلياً بمجرد البذل، ومع هذا الشك يمكنه الرجوع الى استصحاب عدم فعلية التكليف الثابتة قبل البذل الى زمان الشك.

هذه ثلاث صيغ مطروحة للاستدلال بالاستصحاب على البراءة، وأما ثبوت البراءة فواضح لأنَّ الاستصحاب يثبت عدم التكليف إما بنحو عدم الجعل كما في الصيغة الأولى وإما بنحو عدم المجعول كما في الصيغتين الثانية والثالثة، وهذا يساوق البراءة.

وهذه الصياغات محل كلام واعتراض، ويمكن تقسيم الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالاستصحاب الى قسمين:

الأول الاعتراضات العامة، وهي الواردة على جميع الصياغات.

الثاني الاعتراضات الخاصة، وهي المختصة ببعض هذه الصيغ.

أما الاعتراضات من القسم الأول فهي:

الاعتراض الأول: قالوا يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولاً شرعياً أو موضوعاً لمجعول شرعي كالعدالة والاستطاعة وإلا لم يجر فيه الاستصحاب، وهذه قاعدة التزم بها جماعة، وعلى هذا الأساس يقال إنَّ المستصحب - وهو عدم الحكم - ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي فلا يجري فيه الاستصحاب، وهذا الاعتراض مشترك بين الصيغ الثلاثة المتقدمة كما هو واضح

وأجيب عنه بأنه لا دليل على الاشتراط المذكور، وإنما الثابت هو أن لا يكون الاستصحاب لغواً فلو ترتبت الفائدة على التعبد الاستصحابي كفى سواء كان المستصحب مجعولاً شرعياً أو موضوعاً لمجعول شرعي أو غير ذلك، ولا إشكال في أنَّ المستصحب في محل الكلام تترتب عليه الفائدة بلحاظ التعذير، فالمهم هو ترتب التنجيز أو التعذير على الاستصحاب، أما التنجيز فكما لو استصحب التكليف أو موضوعه، وأما التعذير فكما في إستصحاب عدم التكليف.

الاعتراض الثاني ما اشتهر عن المحقق النائيني قده من أنَّ المعتبر في جريان الاستصحاب هو أن يكون الأثر مترتباً على واقع المستصحب، وهذا في قبال أن يكون الأثر المراد إثباته بالاستصحاب يكفي فيه الشك في المستصحب فلا يجري فيه الإستصحاب، فالأثر المترتب على إستصحاب عدالة زيد وهو قبول شهادته أو جواز الإتمام به أثر مترتب على واقع المستصحب ولا يكفي في إثبات هذه الآثار الشك في المستصحب.

وأما إذا فرضنا ترتب الأثر على الشك في المستصحب كما يترتب على واقع المستصحب فلا يجري فيه الاستصحاب لأنَّ الثابت به ثابت بنفس افتراض الشك فيه، والشك موجود بالوجدان، ويقول إنَّ المقام من هذا القبيل لأنَّ الأثر لمراد إثباته هو التأمين وهو ثابت بمجرد الشك في التكليف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا معنى لجريان إستصحاب عدم التكليف لإثباته، هذا من تحصيل الحاصل بل هو من أردأ أنواعه لأنه تحصيل الثابت بالوجدان تعبداًّ!

وأجاب عنه السيد الخوئي قده في المصباح[1] بأنَّ هذا الاعتراض إنما يتم لو كان الأثر مترتباً على خصوص الشك وأما إذا كان مترتباً على الأعم من الواقع ومن الشك به فلا يتم، ومحل الكلام من الثاني لأنَّ التأمين المراد إثباته بالاستصحاب لا يترتب على خصوص الشك في التكليف وإنما يترتب أيضاً على واقع المستصحب وهو عدم التكليف، فالتأمين يثبت فيما إذا أحرز المكلف عدم التكليف كما يثبت إذا شك في التكليف بمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومثل هذا لا يرد عليه الاعتراض.


[1] مصباح الأصول ج2، المجلد 47 ص341 من الموسوعة.