44/11/24
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل
المحاولة الرابعة: وهي دعوى أنَّ الرواية ناظرة الى مرحلة البقاء لا الحدوث، بمعنى أنها ليست في مقام جعل الحلية الظاهرية ابتداءً للأشياء وإنما تقول إنَّ الأشياء التي ثبتت لها الحلية بأي قاعدة حليتها هذه باقية ولا ترتفع إلا إذا استبان لك غير ذلك أو قامت به البينة، فالرواية بصدد جعل حلية الظاهرية في مرحلة البقاء، وبهذا نتخلص من الإشكال لأنَّ هذا يعني أنَّ الأمثلة المذكورة ليست تطبيقات للحلية المجعولة في الحديث وإنما هي ثابتة بأدلتها والرواية تحكم ببقائها ما دمت شاكاً في الحرمة ولا تثبت الحرمة بالعلم وجداني أو بالعلم تعبدي، فيُستفاد من الرواية الحلية الظاهرية المعنى المطلوب.
وقد يقال لتقريب هذه المحاولة إنَّ القرينة على ذلك هي أنَّ الرواية تقول (كل شيء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) ويدعى أنَّ (حلال) خبر لــــ (شيء) و (هو لك) صفة لـــــ (شيء) والتقدير: الشيء الذي هو لك حلال، وقوله (هو لك) يستبطن الحلية، فكأنه يقول: الشيء الذي ثبتت حليته هو حلال حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة، فتكون ناظرة الى مرحلة البقاء لا الحدوث، وهذه حلية ظاهرية بالمعنى المطلوب.
نعم إذا قلنا أنَّ الخبر هو جملة (هو لك حلال) وليس كلمة (حلال) بمفردها وأردنا تخريج هذه المحاولة فلابد من تقييد (الشيء) بما إذا ثبتت حليته، والتقدير: كل شيء ثبتت حليته فهو لك حلال، فهذه الحلية ثابتة بقاءً بعد فرض ثبوت الحلية للشيء، فتكون الرواية ناظرة الى مرحلة البقاء، فلابد من افتراض أنَّ الشيء ثبتت حليته أولاً ثم حكمت الرواية ببقاء هذه الحلية ما دمت شاكاً في الحرمة.
والملاحظات عليها:
أولاً: إنَّ ما ذُكر خلاف الظاهر فإنَّ ظاهر الجملة هو أنَّ الخبر هو جملة (هو لك حلال) فلا مجال لتصحيح المحاولة إلا بتقييد الشيء بما ثبتت حليته كما تقدم، ولكن هذا التقييد خلاف الظاهر أيضاً، فالظاهر هو أنَّ (الشيء) غير مقيد، كما أنَّ جملة (هو لك حلال) ظاهرة في جعل الحلية الظاهرية ابتداءً وليس جعلاً لحلية في مرحلة البقاء.
وثانياً: إنَّ ما ذُكر من ثبوت الحلية بقاعدة من القواعد كاليد والسوق ثم الحكم ببقائها حتى ترتفع بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي هو من الواضحات ولا حاجة لأن يتصدى الشارع لبيانه، فالحلية الثابتة بقاعدة من القواعد كسائر الأحكام باقية ولا حاجة للتنبيه على بقائها بل هو غير مقبول عرفاً، وهذا بخلاف ما إذا قلنا إنَّ الرواية ناظرة الى جعل الحلية الظاهرية ابتداءً فإنه جعل جديد وتصدي الشارع لبيانه مقبول عرفاً.
ثالثاً: ويلزم أيضاً أن تكون الأمثلة المذكورة ليست تطبيقات لما ذكر في صدر الرواية، وإنما هي أمثلة لحلية ثبتت بقواعد أخرى وهو خلاف ظاهر الرواية أيضاً.
ومن هنا لا تكون هذه المحاولة تامة.
النتيجة: يظهر مما تقدم أنَّ جميع المحاولات التي قيلت لدفع هذا الإشكال لا تخلو من مخالفة للظاهر من جهة من الجهات، فإن كان لابد من دفع هذا الاشكال فلعل المحاولة الثالثة هي أقرب المحاولات وأرجحها وذلك باعتبار أنَّ المحذور فيها أقل من باقي المحاولات، وحاصل هذا المحذور هو التساؤل عن معنى تشبيه حكم بمصاديق حكم آخر، أي تشبيه حلية بمصاديق حلية أخرى؟
ويمكن تجاوز ذلك باعتبار أنَّ المراد هو تنظير حلية بحلية أخرى ثابتة في هذه الموارد غاية الأمر أنه اكتفى عن ذكر الحلية الثانية بذكر مصاديقها، فكأنَّ المراد بيانه هو أنَّ الحلية الظاهرية المجعولة في صدر الرواية هي مثل الحلية المستندة الى قاعدة اليد والمستندة الى أمارية سوق المسلمين والمستندة الى الاستصحاب، وهذا وإن إشتمل على مخالفة للظاهر ولكنها أهون بكثير من المخالفة في باقي المحاولات.
ومن هنا يظهر أنَّ هذا التساؤل باقٍ وبحاجة الى جواب، وعلى كل حال الاستدلال بهذه الرواية على البراءة يواجه مشاكل كثيرة منها مشكلة السند.
وهناك روايات أخرى اُستدل بها على البراءة لكننا نعرض عنها ونكتفي بما تقدم، ويُعرف الحال فيها مما ذكرنا في التعليق على الاستدلال بالروايات السابقة.
وبهذا ننتهي من الأدلة التي اُستدل بها على البراءة من السُّنة الشريفة، ثم يقع الكلام في الاستدلال على البراءة بالإستصحاب.