44/11/23
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل
إشكال آخر:
اُشكل على الاستدلال برواية مسعدة بن صدقة على البراءة بإشكال آخر ينشأ من أنَّ الرواية ظاهراً ناظرة الى حلية أخرى غير ما نريد إثباته، فإنَّ البراءة التي نريد إثباتها هي التي تثبت بملاك عدم العلم بالحرمة، والإشكال يقول إنَّ الرواية ليست ناظرة الى ذلك وإنما هي ناظرة حلية ثابتة إستناداً الى اليد أو الى الاستصحاب ونحود ذلك وليست ثابتة بملاك عدم العلم بالحرمة فلا تنفع في محل الاستدلال، فإنَّ التطبيقات المذكورة مستندة الى قواعد أخرى، فقوله عليه السلام (أو المملوك عندك ولعلّه حُرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً) فبائعه صاحب يد عليه وهي أمارة الملكية، فالإباحة هنا مستندة الى اليد، وكذا في قوله (..أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك) مستند الى استصحاب الحلية الثابتة في المرأة التي يشك في أنها أخته بالرضاعة، فهذه التطبيقات تشير الى حلية غير التي نريد اثباتها في محل الكلام، فلا يصح الاستدلال بالرواية.
والحاصل إنَّ الأمثلة المذكورة في الرواية لا يمكن أن يكون المستند في حليتها أصالة الحل بل الأصول والأمارات الحاكمة على أصالة الفساد في الأموال وأصالة الاحتياط في الفروج بحيث لولا هذه الأصول والقواعد لكان المرجع هو الاحتياط لا البراءة، ولذا ترى أنه لم يلتزم أحد بحلية الثوب المشترى من السوق إذا احتمل كونه سرقة بقطع النظر عن أمارية اليد أو السوق، وكذا حلية المرأة التي تكون تحتك ولعلها أختك من الرضاعة بقطع النظر عن إستصحاب عدم تحقق الرضاع، فليست الحلية ثابتة بملاك عدم العلم بالحرمة.
محاولات وتعليقات:
وهناك عدة محاولات للتخلص عن هذا الإشكال واثبات إمكان الاستدلال بالرواية على البراءة:
المحاولة الأولى للمحقق العراقي قده وحاصلها: إنَّ هذا الاشكال إنما يرد فيما إذا كان صدر الرواية في مقام إنشاء الحلية في الأمثلة المذكورة في الرواية بعنوان كونها مشكوكة الحرمة، وأما إذا قلنا أنَّ صدر الرواية ليس في هذا المقام وإنما هو إخبار وحكاية عن إنشاءات الحلية في الموارد المذكورة بعناوين مختلفة، كالحلية المستفادة من عنوان اليد، والحلية المستفاد من عنوان السوق، والمستفادة من الإستصحاب، فصدر الرواية إخبار عن هذه الحلِّيات المتعددة بعناوينها المختلفة، ومن جملة هذه العناوين عنوان مشكوك الحرمة، وكأنّ الإمام عليه السلام في مقام بيان عدم الاعتناء بالشك بالحرمة سواءً كان ذلك لثبوت الحلية بعنوان اليد أو بعنوان الاستصحاب أو استناداً الى كونه مشكوك الحرمة، وبناءً عليه لا يرد الاشكال لاختصاص كل مورد من هذه الوارد بالحلية الخاصة به.
والتعليق عليها: هذه المحاولة كما تدفع الاشكال تقتضي صحة الاستدلال بالرواية وذلك لأنَّ واحدة من الحلِّيات التي يحكي عنها صدر الرواية هي الحلية بعنوان ما يُشك في حرمته، وهذا كافٍ في اثبات البراءة بالمعنى المقصود.
ولكن يلاحظ عليها إنَّ ظاهر الرواية هو أنَّ الامام عليه السلام في مقام بيان قاعدة كلية كما أنَّ ذلك إنما هو لأجل تطبيقها على موارد معينة ذكرها في نفس الرواية، بل يظهر منها أنه عليه السلام في مقام تعليم المخاطب كيفية تطبيق هذه القاعدة على موارد غير مذكورة في الرواية ولذا قال: (والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة) وهذا لا يناسب ما ذكره المحقق العراقي قده من أنَّ صدر الروية في مقام الاخبار فإن الكلام الصادر من المشرع الأصل فيه هو حمله على الإنشاء، وأما حمله على الإخبار فبحاجة الى قرينة، فما ذكره خلاف ظاهر الرواية، والظاهر منها هو أنها في مقام بيان قاعدة واحدة كلية وموضوعها هو الشك في الحرمة الذي بُيّن فيها، ولكن يعود السؤال والاشكال كيف طُبقت على الأمثلة المذكورة في الرواية، هذا يعني أنَّ الإشكال باق على حاله.
المحاولة الثانية: للسيد الخوئي قده إنَّ الحلّية المذكورة في صدر الرواية ليس لها علاقة بالحلّية المبحوث عنها في محل الكلام وإنما هي حلية مستندة الى اليد والسوق والاستصحاب، فيندفع الاشكال لأنَّ لأمثلة المذكورة تطبيقات صحيحة لها، فحمل الحلّية في صدر الرواية على الحلّية المبحوث عنها المعبر عنها بأصالة الإباحة هو السبب في ورود هذا الاشكال.
وذكر أنه يحتمل أيضاً في الحلية المذكورة في صدر الرواية هو الحلية بمعناها اللغوي أي الارسال وإطلاق العنان وعدم التقييد في مقابل المنع، وهذا المعنى ينطبق على الحلية الظاهرية الثابتة بأصالة الحل كما ينطبق على الحلية المستفادة من اليد أو السوق أو الاستصحاب، وذلك لأنَّ الارسال وإطلاق العنان ثابت في جميع هذه الموارد، ولكن حمل الصدر على ذلك خلاف ظاهر قوله عليه السلام (حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة) فإنه ظاهر في حصر الرافع للحلية بالعلم الوجداني والعلم التعبدي، وهذا لا يناسب حمل الحلية على الارسال وإطلاق العنان، وحصر الرافع للحلية في هذين الأمرين لا يثبت إلا في هذه الأمثلة بمعنى أنَّ الحلية الثابتة إستناداً الى اليد لا ترتفع إلا بالعلم الوجداني بالحرمة أو بقيام البينة على الحرمة، بخلاف غير هذه الموارد إذ لا ينحصر الرافع للحلية بهذين الأمرين كارتفاعها بخبر الثقة الواحد وبالاستصحاب وبغير ذلك، فهذا الحصر يمنع من تفسير صدر الرواية بحلية منطبقة على الأمثلة المذكورة في الرواية وعلى غيرها، فلابد من القول أنَّ الحلية المذكورة هي حلية خاصة ثابتة إستناداً الى اليد أو الى السوق أو الاستصحاب وبذلك لا يرد الإشكال المتقدم.
والتعليق عليها: إنَّ هذه المحاولة وإن تخلصت من الاشكال ولكنها تجعل الرواية أجنبية عن محل الكلام ومعه لا يصح الاستدلال بها على المطلوب.
المحاولة الثالثة: إنَّ الاشكال نشأ من افتراض أنَّ الأمثلة المذكورة هي تطبيقات للحلية المذكورة في صدر الرواية وأما إذا قلنا إنها من باب التنظير والتشبيه لا التطبيق فلا يلزم هذا الاشكال، فهذه حلِّيلات تثبت بملاكات أخرى والحلية الثابتة في صدر الرواية من قبيل ذلك فالملاكات متعددة، فالأمثلة ليست من باب التطبيق وإنما هي من باب التشبيه والتنظير فلا يرد الإشكال.
وتعليق عليها:
أولاً إنَّ أصل هذه الفكرة بحاجة الى إثبات، وثانياً إنَّ التنظير عادة ما يكون بين حكمين متشابهين ثابتين بملاكين مختلفين كالحلية الثابتة بملاك اليد والحلية الثابت بملاك السوق، ولكن الملاحظ في الرواية هو التنظير بين الحلية في صدرها وبين تطبيق لحلِّيلات أخرى فإنه عليه السلام يقول (كل شيء هو لك حلال ... وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة) وهذا تنظير لحكم وهو الحلية بتطبيق لحلِّيلات أخرى.