44/11/22
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل
تتمة الكلام في القرينة الثانية على اختصاص رواية مسعدة بن صدقة بالشبهات الموضوعية
وهي التمسك بقوله عليه السلام (أو تقوم به البينة) الذي جُعل غاية للحل، وذلك باعتبار أنَّ قيام البينة إنما يصح أن يكون غاية للحل في خصوص الشبهات الموضوعية، مع الالتفات الى أنَّ هذا مبني على أن يكون المراد بالبينة المعنى الاصطلاحي وهو شهادة العدلين، وأما في الشبهات الحكمية فالغاية فيها ليس هو قيام البينة فقط وإنما ترتفع الحلية بقيام خبر الواحد على الحرمة.
القرينة الثالثة: ظهور الرواية في حصر الغاية في أمرين (حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة) أي العلم بالحرمة أو قيام البينة عليها.
وذلك باعتبار أنه في الشبهات الموضوعية يحكم بالحل استناداً الى إحدى القواعد إما من الأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية كقاعدة اليد أو الاستصحاب، ففي باب الشك في الزوجة يثبت الحِل استصحاب عدم وجود علاقة بين هذا الرجل وهذه المرأة، وفي العبد تثبت الحلية بقاعدة اليد بالنسبة لبائعه، وأما انحصار ارتفاع الحلية بأحد هذين الأمرين فهو يناسب الشبهات الموضوعية.
وأما الشبهات الحكمية فلا ينحصر رفع الحلية بهذين الأمرين بل يمكن أن ترتفع بخبر الثقة الواحد أو بالاستصحاب، كما لو أخبر الثقة بحرمة أكل لحم الأرنب، أو كان المورد مورداً لاستصحاب الحرمة، فالانحصار بهذين الأمرين في الشبهات الموضوعية فقط والسر فيه هو أنَّ الحلية فيها تثبت استناداً الى قاعدة من القواعد كما تقدم.
القرينة الرابعة: هي كلمة (بعينه) الواردة في هذه الرواية أيضاً، وهي قيد احترازي يُحترز بها عن معرفة الحرام لا بعينه، وهو العلم الإجمالي بالحرام، وهذا يناسب الشبهة الموضوعية إذ يمكن القول أنَّ معرفة الحرام لا بعينه إذا كان في ضمن أطراف غير محصورة فيمكن أن يكون هذا القيد احترازاً عنها ولا مانع من الالتزام بالحلية في الشبهات غير المحصورة، وأما الشبهة الحكمية فيمكن فرض معرفة الحرام لا بعينه - أي في ضمن علم إجمالي – كأن يعلم المكلف بالحرام في ضمن أحد فعلين ولا يمكنه أن يشخصه، ولكن لا يمكن أن يلتزم فيه بالحلية لأنها تنافي قانون منجزية العلم الإجمالي، فإن قلتَ لنفترض الأطراف غير محصورة في هذا العلم الإجمالي، قلنا هذه حالة نادرة أو معدومة، كما ذكر السيد الخوئي قده.
وهذه القرائن يمكن التأمل فيها:
أما القرينة الأولى وهي التطبيقات المذكورة في الرواية، فليست واضحة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية، فقد ذكر الإمام عليه السلام قاعدة كلية في صدر الرواية فقال: (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك..) ثم قال في آخرها: (والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة) وهذه التطبيقات وإن كانت أمثلة للشبهات الموضوعية لكنها ليست واضحة في اختصاص القاعدة بها، فالتطبيق هنا لنكتة ما ولو كانت باعتبار أنها الحالة الشائعة ولكنه لا يعني الاختصاص.
وأما القرينة الثانية وهي قيام البينة، فهي مبتنية على تفسير البينة بالمعنى الاصطلاحي أي شهادة عدلين، وأما إذا قلنا أنَّ المقصود بها المعنى اللغوي وهو الأمر المبين والواضح بدعوى عدم استقرار الاصطلاح في زمان صدور الرواية فتسقط هذه القرينة وذلك لإمكان فرض ارتفاع الحلية بخبر الواحد الثقة الذي يتحقق به التبين والوضوح ولا ينحصر ذلك بخصوص شهادة العدلين.
والحاصل إنَّ جعل البينة غاية للحلية في الحديث يصح حتى في الشبهات الحكمية لأنَّ المراد بالبينة المعنى اللغوي فلا يصح جعلها قرينة على الاختصاص.
وقد يقال نستبعد أن لا يستقر المعنى الاصطلاحي في زمان صدور الرواية، لأنها استعملت كثيراً في المعنى الاصطلاحي الجديد، ولا أقل من احتمال إرادة المعنى الاصطلاحي، وهذا الاحتمال يمنع أيضاً من الاستدلال بالرواية، فالمنع لا يتوقف على احراز إرادة المعنى الاصطلاحي بل يكفي فيه احتمال ذلك، وإنما يصح الاستدلال بها إذا احرزنا إرادة المعنى اللغوي، فالسؤال ما هو المراد بالبينة في الرواية؟
الجواب: يستبعد أن لا يراد بها المعنى الاصطلاحي، لكثرة استعمالها فيه، وكأنَّ المعنى اللغوي لها هجر فيُنزل استعمالها في الرواية على المعنى الاصطلاحي، ولا أقل من احتمل ذلك، وهذا ما يجعلها قرينة على الاختصاص.
وأما القرينة الثالثة وهي حصر الغاية بالأمرين المذكورين، وهي مبتنية على الالتزام بأمرين:
أحدهما إنَّ خبر الثقة الواحد ليس حجة في الموضوعات.
والآخر عدم جريان الاستصحاب بالشبهات الموضوعية.
فمع الالتزام بذلك تكون القرينة تامة، وذلك لأنَّ حصر الغاية بالعلم والبينة يكون قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية، لأنَّ المفروض هو عدم حجية خبر الثقة في الموضوعات وعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية، فهما هو الرافع للحلية في الشبهات الموضوعية، فيتعين أن يكون الرافع إما العلم الوجداني وإما البينة الاصطلاحية وهو منحصر بهما، فتكون قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية.
وهذا الحصر لا يصح في الشبهات الحكمية لأنَّ الحلية يرفعها خبر الثقة الواحد والاستصحاب، وأما إذا منعنا من ذلك وقلنا أنَّ خبر الواحد حجة في الموضوعات كما هو حجة في الأحكام، وقلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية كما يجري في الشبهات الحكمية، فلا يصح الحصر لا بلحاظ الشبهات الحكمية ولا بلحاظ الشبهات الموضوعية كما هو واضح.
والحاصل إذا لم نلتزم بهذين الأمرين فلا يكون الحصر قرينة على الاختصاص لأنه كما لا يصح الحصر في الحكمية كذلك لا يصح في الموضوعية لنفس السبب وهو إمكان أن يكون الرافع للحلية هو الاستصحاب أو خبر الثقة الواحد، وإن أريد بالبينة المعنى اللغوي فيصح الحصر فيهما، فعلى كل حال لا يصح جعل الحصر قرينة على الاختصاص بالموضوعية بعد البناء على حجية خبر الثقة في الموضوعات وجريان الاستصحاب فيه، لأنه إن اريد بالبينة شهادة العدلين فلا يصح الحصر فيهما وإن اريد المعنى اللغوي فيصح الحصر فيهما والتفريق بينهما لا وجه له.
وأما القرينة الرابعة وهي كلمة (بعينه) فالجواب فيها كما تقدم في الطائفة الأولى بلا فرق.
النتيجة: ومن هنا يظهر أنَّ معظم هذه القرائن ليس تاماً، ما عدا قرينة البينة إذا اريد بها المعنى الاصطلاحي وهو شهادة العدلين، فبناءً عليه يكون جعل البينة غاية للحلية قرينة على الاختصاص بالشبهات الموضوعية، وهذا وإن صعب الجزم به ولكنه غير مستبعد أيضاً كما تقدم.