الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل

كان الكلام في القرينة على اختصاص بعض روايات الحل بالشبهات الموضوعية وانتهى الكلام الى القرينة الثانية هي التمسك بكلمة (بعينه)، وأشرنا لما ذكره السيد الخوئي قده وحاصله:

إنَّ كلمة (بعينه) احتراز عن العلم بالحرام لا بعينه، فالحلية ثابتة في حالة معرفة الحرام لا بعينه وإنما ترتفع الحلية إذا عرفتَ الحرام بعينه، وحالة معرفة الحرام لا بعينه هي حالة العلم الإجمالي، وإنما يُقبل جعل الحلية فيه إذا كانت أطرافه غير محصورة، وأما إذا كانت أطرافه محصورة فلا يقبل ذلك لأنه ينافي قانون منجزية العلم الإجمالي، ومن الواضح أنَّ الأطراف غير المحصورة التي يُقبل جعل الحلية فيها هي الحالة الشائعة في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فهي نادرة أو معدومة، والغالب فيها هو حالة الانحصار، وهذا قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية.

والحاصل إنَّ معرفة الحرام لا بعينه إشارة الى العلم الإجمالي، وهو لا يخلو إما أن تكون أطرافه محصورة أو لا، والأول ينافي منجزية العلم الإجمالي، والثاني نادر أو معدوم في الشبهات الحكمية، فلا معنى لحمل الحديث عليه، بخلاف حمله على الشبهات الموضوعية التي يمكن القول فيها إنَّ ما ثبتت الحلية فيه هو العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة.

وهنا ملاحظات:

الأولى: إنَّ المحذور هو اختصاص الدليل بالفرد النادر أو المستحيل وأما شموله بإطلاقه لهما فلا محذور فيه، والمُستدل لا يريد إثبات اختصاص الحديث بالشبهات الحكمية وإنما يريد إثبات شمول الحديث لها، وإثبات الحلية في حالة العلم الإجمالي بالحرام، خرج منه الشبهات المحصورة لمنجزيته وبقيت الشبهات غير المحصورة، فتثبت الحلية فيها، وهي بالنسبة الى الشبهات الموضوعية حالة عامة وشائعة وبالنسبة الى الشبهة الحكمية حالة نادرة.

الملاحظة الثانية: أنَّ ما ذكره قده يؤدي الى نتيجة يصعب الالتزام بها وهي عدم وجود شبهات موضوعية بدوية، فالذي يفهم من كلامه هو أنَّ الشبهة الموضوعية دائماً مقترنة بالعلم الإجمالي، مثلاً هذا اللحم المشكوك لا يعلم بأنه ميتة أو مذكى، فيقال هو يعلم بوجود ميتة في ضمن أفراد كثيرة - في البلد مثلاً - ويحتمل انطباق الميتة على هذا المشكوك وهذه شبهة موضوعية مقترنة بالعلم الإجمالي، وكذا الشك في هذا المائع هل هو خل أو خمر، فيُحتمل انطباق الخمر عليه.. وهكذا، فكل شبهة موضوعية تكون مقترنة بالعلم الإجمالي، وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه وبالنظر الدقيق إلا أنه بنظر العرف شبهة بدوية، فيمكن القول إنَّ الروايات تثبت الحلية فيه بقطع النظر عن مسألة انحصار الأطراف أو عدم انحصارها.

ومن هنا يبدو أنَّ الصحيح هو أنَّ هذه القرينة على الاختصاص ليست تامة.

القرية الثالثة: التمسك بقوله عليه السلام (حتى تعرف الحرام) فإنه ظاهر في أنَّ المجهول هو الحرام لا الحرمة، والحرمة إنما تكون مجهولة في الشبهات الحكمية وأما في الشبهات الموضوعية فلا شك فيها وإنما الشك في الموضوع كهذا اللحم هل هو ميتة أو مذكى، أي أنَّ المجهول في الشبهة الحكمية هو الحرمة - أي الحكم- في حين أنَّ المجهول في الشبهة الموضوعية هو الحرام - أي الفعل - فقوله عليه السلام (حتى تعرف الحرام) إنما ينطبق على الشبهات الموضوعية.

والملاحظة عليها: قد تقدم أنَّ الحكم في الشبهات الموضوعية مجهول أيضاً غاية الأمر أنّ المجهول فها هو الحكم الجزئي بينما المجهول في الشبهات الحكمية هو الحكم الكلي، فيمكن أن نقول إنَّ عبارة (حتى تعرف الحرام) أعم من الشبهة الموضوعية كالشك في هذا اللحم هل هو مذكى أو ميتة، ومن الشبهة الحكمية كالشك في حكم لحم الأرنب، فعلى كلا التقديرين يصح القول هذا اللحم لا يُعرف حكمه، مع فارق في منشأ عدم العلم فتارة ينشأ من إشتباه الموضوع الخارجي وأخرى من عدم الدليل.

القرينة الرابعة: التمسك بكلمة (منه) الظاهر منها أنها للتبعيض، أي كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام من ذلك الشيء، فهذه الكلمة فيها دلالة على إنقسام الشيء الى قسمين بقطع النظر عن التقسم المذكور في صدر هذه الروايات، وقد تقدم أنَّ التقسيم قرينة مقبولة على اختصاص الروايات بالشبهات الموضوعية.

النتيجة:

ومن هنا تبيّن أنَّ التام من هذه القرائن هو القرينة الأولى والأخيرة دون الثانية والثالثة، وعليه لا يصح الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات على البراءة في محل الكلام.

الطائفة الثانية وهي الروايات الدالة على الحلية من دون تقدم التقسيم فيها، وتتمثل برواية مسعدة بن صدقة ورواية عبد الله بن سليمان، والأولى فيها إشكال من جهة مسعدة بن صدقة نفسه إذ لا يوجد وجه لإثبات وثاقته، وأما الثانية فقد تقدم عن كثير من المحققين أنهم لم يعثروا على رواية بهذا المضمون (كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام) ولذا نقلنا عن المحقق العراقي قده أنها نقل بالمعنى عن رواية عبد الله بن سليمان الواردة في الجبن.

وتفصيل الكلام فيها:

أما رواية مسعدة بن صدقة وهي:

(..عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حُرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة.)[1]

فأحد الأمرين المذكورين يحقق الغاية وترتفع الحلية، الأول قوله عليه السلام (حتى يستبين لك غير ذلك) وهو إشارة الى العلم الوجداني بالحرمة، والثاني (أو تقوم به البينة) أي العلم التعبدي بالحرمة، وفيما عدا هذين الأمرين فالشيء لك حلال.

وتقريب الاستدلال بها على البراءة باعتبار دلالتها على حلية ما لم يُعلم حرمته وهو واضح لأنها جعلت الغاية هي العلم بالحرمة سواءً كان ذلك في الشبهة الحكمية أو الشبهة الموضوعية بأن يكون عدم العلم بحرمة الشيء من جهة عدم تمامية الدليل عليه أو من جهة اشتباه الأمور الخارجية.

وهناك اعتراضات على هذا الاستدلال وهي تدور حول وجود إطلاق في الرواية يجعلها شاملة للشبهات الحكمية أو عدم وجوده فتختص بالشبهات الموضوعية، وقد ذكرت هنا قرائن على الاختصاص أيضاً:

القرينة الأولى: التطبيقات التي تبرع بذكرها الإمام عليه السلام فكلها داخلة في الشبهات الموضوعية.

القرينة الثانية: قوله عليه السلام (أو تقوم به البينة) فالمُستدل يقول الحلية في الشبهات الموضوعية يمكن أن تكون غايتها قيام البينة وأما في الشبهات الحكمية فالغاية فيها ليس ذلك فقط بل خبر الثقة الواحد حجة في إثباتها، وهذا قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به الحديث، باب4، ح4، ط آل البيت.