44/11/18
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل
الكلام في القرينة الثانية على اختصاص روايات الحل بالشبهات الموضوعية، وهي تعتمد على كلمة (بعينه) الواردة في بعض الروايات المتقدمة، وذلك باعتبار أنه لا معنى لهذا القيد في الشبهات الحكمية وإنما يكون مقبولاً وله معنى في خصوص الشبهات الموضوعية.
وهذا مبتني على أنَّ الأصل في القيود هو الاحترازية وأنَّ حملها على التوضيح والتوكيد خلاف الظاهر، والاحتراز هنا عن معرفة الحرام لا بعينه، وهو إنما يُتصور في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فلا توجد مثل هذه الحالة حتى تكون كلمة (بعينه) احترازاً عنها تلك.
وتطبيقها على الشبهات الموضوعية واضح فإنَّ الحرام فيها غالباً ما يُعرف لا بعينه، فالخمر المردد بين مائعين يحتمل أن يكون هذا أو ذاك فهو معلوم ولكن لا بعينه، وهكذا الميتة المردد وغيرها من الشبهات الموضوعية، فالمكلف في هذه الشبهات تارة يعرف الحرام فيها بعينه وأخرى يعرفه لا بعينه، أو قل هو يعرف الحرام في شبهة غير محصورة، والرواية تقول كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه وهذا يشمل صورة معرفة الحرام ولكن لا بعينه، وهذا هو معنى الاحتراز، فلو لم يقل (بعينه) فهذا يعني ثبوت الحرمة في جميع الصور المرددة منها والمشخصة فلا تثبت الحلية وهذا ما لا يمكن الالتزام به.
وأما في الشبهات الحكمية فلا يتصور فيها حالة يُعرف فيها الحرام لا بعينه، فإنَّ الشك في حرمة شيء كشرب التتن أو أكل لحم الأرنب دائر بين أمرين إما العلم بالحرمة بعينها وإما عدم العلم بالحرمة فلا معرفة بها أصلاً، وأما معرفة الحرمة ولكن لا بعينها فلا تحقق لها، فالقيد (بعينه) لا يكون احترازياً إذا قلنا بشمول الرواية للشبهات الحكمية، فيتعين حمله على التأكيد أو التوضيح ولكنه خلاف الظاهر، فلابد من اختصاصه بالشبهات الموضوعية حذراً من مخالفة الظاهر.
والحاصل: في الشبهة الموضوعية نتصور حالة العلم بالحرام لا بعينه فيها كما هو الحال في الشبهات غير المحصورة، إذن يمكن أن تكون (بعينه) احترازاً عن هذه الحالة، فالمراد أنَّ الأشياء حلال الى أن تعلم أنها حرام بعينها احترازاً عن العلم بأنها حرام لا بعينها.
وأضاف السيد الخوئي قده لهذه القرينة أنه يمكن افتراض وجود حالة العلم بالحرام لا بعينه في الشبهات الحكمية كما في الشبهة غير المقرونة بالعلم الإجمالي، فإذا افترضنا دوران الأمر في الحرمة بين شيئين مرددين إما الغيبة وإما الغناء، فهذه شبهة مقرونة بالعلم الإجمالي، وهنا يمكن القول بأنه يعلم بالحرمة أحدهما لا بعينه، وتكون كلمة (بعينه) احترازاً عن الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، بمعنى أنها غير داخلة في الغاية وإنما تدخل في المُغيى أي في الحلية، فأصل تصور معرفة الحرام لا بعينه في الشبهات الحكمية لا مشكلة فيه.
ولكن المشكلة في أنه لا يمكن الالتزام بجريان الإباحة في مورد معرفة الحرام لا بعينه في الشبهات الحكمية لأنه علم إجمالي منجز يجب الاحتياط بلحاظه.
والحاصل: يمكن تحقق هذه الحالة في موارد العلم الإجمالي بحرمة أحد الشيئين أو الأشياء فإنَّ المكلف يعلم حينئذٍ بحرمة الشيء لا بعينه، فيمكن أن تكون (بعينه) احترازاً عن هذه الحالة، إلا أنَّ فرض الحلية هنا ينافي قانون منجزية العلم الاجمالي الذي لا يمكن رفع اليد عنه، إذن كلمة (بعينه) في الشبهات الحكمية البدوية لا يمكن أن تكون احترازية، وفي الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الاجمالي يمكن فيها ذلك إلا أنه لا يمكن الالتزام بشمول الحديث لها لأنها خلاف قانون منجزية العلم الاجمالي، وعليه يتعين حمل الحديث على الشبهات الموضوعية التي يمكن أن تكون الكلمة احترازية عن حالة العلم بالحرام لا بعينه، وهي حالة متحققة بل لا ينفك فرض الشبهة الموضوعية عن فرض هذا العلم، مثلاً إذا شك المكلف في حرمة مائع خارجي لاحتمال كونه خمراً فإن هذا لا ينفك عادة عن العلم بوجود الخمر في الخارج إجمالاً المحتمل انطباقه على هذا المائع المشكوك وحينئذٍ يكون الحرام معلوماً لا بعينه، لكن هذا العلم الإجمالي لعدم حصر أطرافه وعدم كون جميعها محل الابتلاء لا يوجب تنجيز المعلوم فيصح أن يقال إنَّ المكلف إذا شك في طرف من أطراف هذا العلم وكان داخلاً في محل الابتلاء فهو حلال ما لم يعلم أنه حرام بعينه.
والحاصل أنَّ كلمة (بعينه) إذا كانت احترازية فهي احتراز عن حالة العلم بالحرام لا بعينه، أي حالة العلم الإجمالي، وهذا إنما يُقبل إذا كانت أطراف العلم غير محصورة، وإلا كانت الحلية المجعولة في الحديث منافية لمنجزية العلم الإجمالي، ومن الواضح إنَّ كون الاطراف غير محصورة حالة شائعة ودائمة في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فهي حالة نادرة أو معدومة والغالب فيها حالة الانحصار التي عرفت عدم شمول الحديث لها.
وهنا ملاحظات:
الأولى إنَّ المُستدل على البراءة والحلية في محل الكلام ليس غرضه إثبات اختصاص روايات الحل بالشبهات الحكمية وإنما غرضه إثبات شمولها للشبهات الحكمية، فلا معنى لجوابه (بأنه يتنافى مع ندرة الشبهة غير المحصورة في الشبهات الحكمية، فلابد من حملها على الحالة الشائعة وهي الشبهة المحصورة، ولكن لا يمكن الالتزام فيها بالحلية لأنه ينافي قانون منجزية العلم الإجمالي، فلابد من القول أنَّ هذه الروايات لا تشمل الشبهات الحكمية) ، فالمطلوب إثبات شمولها لها وإن كانت حالة نادرة، فيحكم فيها بالحلية حتى تعرف الحرام بعينه، ولا منافاة فيها لمنجزية العلم الإجمالي.
وبعبارة أخرى إنَّ شمول الدليل للحالة النادرة لا محذور فيه وإنما المحذور في اختصاصه بها، وعليه فلنقل بشمول روايات الحل لكلا الشبهتين حتى وإن كانت الحالات في الشبهات الحكمية نادرة.