44/11/17
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل
كان الكلام في روايات الحِل وقلنا يمكن تقسيمها بلحاظ مضمونها الى طائفتين:
الطائفة الأولى الروايات التي ذكر فيها تقسيم الشيء الى قسمين حلال وحرام، وتمثلها صحيحة عبد الله بن سنان.
الثانية ما خلت من هذا التقسيم ويتمثل برواية مسعدة بن صدقة التي تقول (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه)، وكذا رواية عبد الله بن سنان الوارد في الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 1 :
(محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن (أبي أيّوب)، عن عبد الله بن سنان، عن عبد الله ابن سليمان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن ؟ فقال: لقد سألتني عن طعام يعجبني، ثمَّ أعطى الغلام درهماً، فقال: يا غلام ابتع لنا جبناً، ثمَّ دعا بالغداء، فتغدّينا معه، فأتي بالجبن، فأكل وأكلنا، فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول: في الجبن ؟ قال: أو لم ترني آكله ؟ قلت: بلى ، ولكنّي أُحبّ أن أسمعه منك، فقال: سأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه.)[1]
وتلحق بهما مرسلة معاوية بن عمار الحديث 7 من الباب نفسه، نقلها صاحب الوسائل عن المحاسن:
أحمد بن أبي عبد الله البرقي في (المحاسن) (عن اليقطيني ، عن صفوان ، عن معاوية بن عمّار ، عن رجل من أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر ( عليه السلام ) فسأله رجل عن الجبن ؟ فقال أبو جعفر ( عليه السلام ): إنّه لطعام يعجبني، فسأخبرك عن الجبن وغيره، كلُّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال، حتّى تعرف الحرام، فتدعه بعينه.)[2]
والطائفة الثانية رواياتها ضعيفة سنداً، أما رواية مسعدة بن صدقة ففيه كلام معروف ولم تثبت وثاقته، وكذا رواية عبد الله بن سليمان لأنَّ فيها أبان بن عبد الرحمان وهو مجهول، وأحمد بن محمد الكوفي الذي يروي عنه الشيخ الكليني مباشرة وقد قيل انه مجهول أيضاً.
ومن هنا يظهر أنَّ الطائفة الثانية ليس فيها ما هو تام من حيث السند بخلاف الطائفة الأولى التي فيها ما هو تام سنداً، وعلى الأقل صحيحة عبد الله بن سنان.
وذكر الشيخ الأنصاري قده في الرسائل الطائفة الأولى وأهمل الطائفة الثانية، وعكس صاحب الكفاية فذكر الطائفة الثانية وأهمل الأولى، وعمدة الاشكال في الاستدلال بهذه الروايات على البراءة هو دعوى اختصاصها بالشبهة الموضوعية وأنها لا تشمل الشبهة الحكمية التي هي محل الكلام، وذكروا لهذا الاختصاص قرائن وسيظهر أنها تركز على التقسيم المذكور في روايات الطائفة الأولى، ويدعى أنه قرينة على اختصاصها بالشبهات الموضوعية، والقرائن هي:
القرينة الأولى تقسيم الشيء الى حلال وحرام، بدعوى أنَّ الظاهر منه هو التقسيم الفعلي وأنَّ حملها على الترديد خلاف الظاهر، ويظهر من هذه الروايات أنَّ الانقسام الفعلي هو السبب في الشك في حرمة وحلية الشيء، فالرواية تحكم بحلية ما يُشك في كونه حلالاً أو حراماً بمعنى أنك إذا شككتَ في شيء أنه داخل في القسم الحلال أو في القسم الحرام فهو لك حلال، وتطبيقه على الشبهة الموضوعية واضح جداً وذلك بأن يقال لو شككنا في حرمة لحم ما للشك في تذكيته فاللحم ينقسم الى قسمين حلال وحرام، ولهذا الانقسام شككنا في هذا اللحم، والرواية تقول أنَّ اللحم الذي هذا شأنه هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام، وهذه شبهة موضوعية والبراءة ثابتة فيها، وهكذا سائر الشبهات الموضوعية كالشك في هذا العصير الخارجي هل هو متخذ من العنب فيكون حراماً أم من شيء آخر فيكون حلالاً، ومنشأ هذا الشك هو أنَّ العصير فيه قسمان حلال وحرام.. وهكذا، فيمكن القول أنَّ الشبهة الموضوعية هي القدر المتيقن من هذه الروايات.
وأما الشبهة الحكمية فتطبيق الرواية عليها مشكل، ومثالها الشك في حرمة شرب التتن مثلاً فإنه لا ينقسم الى حلال وحرام بل حكمه مردد بين الحلال والحرام، والترديد غير التقسيم، ومن هنا لا يكون الشك في حرمة التتن منشؤه التقسيم كما هو الحال في الشبهة الموضوعية.
الاعتراضات على هذه القرينة:
الاعتراض الأول: وهو ما ذكره المحقق العراقي قده في نهاية الأفكار[3] من أنَّ الانقسام الفعلي يمكن فرضه حتى في الشبهة الحكمية وذلك بأن يقال إنَّ الشك إذا كان في حلية أو حرمة حيوان مشتبه فهي شبهة حكمية، فمثلاً لحم الغنم حلال ولحم الأرنب حرام لكن الشك وقع في قسم الثالث مشتبه ويُشك في حليته أو حرمته، وهنا يمكن أن نقول إنَّ الشك في حلية أو حرمة هذا القسم الثالث هو من جهة التقسيم، وإلا لو كان اللحم كله حلال أو كله حرام لم يحصل الشك في حكم هذا القسم، فاللحم فيه قسمان حلال وحرام، فبمقتضى عموم الرواية يمكن تطبيقها على هذا القسم المشكوك ويثبت فيه الحكم (فهو لك حلال).
ثم ترقى وقال يمكن فرض ذلك حتى في لحم الغنم الحلال نفسه ولكن بالنسبة الى أجزائه فإن فيها حلال وحرام، كما أنَّ فيها أجزاء مشكوك حكمها، وهذا شك بنحو الشبهة الحكمية، فيصح أن يقال إنَّ لحم الغنم فيه حلال وحرام ولأنه كذلك وقع الشك في حكم بعض الأجزاء كبؤبؤ العين مثلاً، وبهذا تندفع هذه القرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية.
وأجابوا عنه: بأنَّ الانقسام الذي ذكره في الشبهة الحكمية صحيح إلا أنَّ منشأ الشك في حلية وحرمة القسم الثالث المشكوك ليس هو الانقسام المذكور وإنما هو للشك في حكمه في نفسه بقطع النظر عن حكم الأقسام الأخرى، وهذا يعني أنَّ منشأ الشك ليس هو وجود حلال وحرام، ففي المثال الثاني نشك في حكم بؤبؤ العين بقطع النظر عن حكم الأجزاء الأخرى، وهذا يعني أنَّ منشأ الشك ليس هو الانقسام الذي ذكره، وهذا بخلاف الشك في الشبهة الموضوعية فإنَّ منشؤه هو انقسام اللحم الى مذكى وميتة، فوجود القسمين هو منشأ الشك في هذا حكم هذا اللحم الخارجي.
الاعتراض الثاني: وهو ما ذكره المحقق النائيني قده من أنَّ الشيئية في الحديث تساوق الوجود الخارجي وهو غير قابل للقسمة بأن يكون للوجود واحد قسمان، فلابد من حمل قوله عليه السلام (فيه حلال وحرام) على الترديد دون التقسيم، وبهذا يكون شاملاً للشبهات الحكمية، فشرب التتن مشكوك الحكم لأنه شيء مردد الحكم بين الحلال والحرام وليس هو منقسم فعلاً، كما أنها تشمل الشبهة الموضوعية فنقول هذا اللحم الخارجي مردد بين الحلال والحرام، وغاية الفرق بين الشبهتين أنَّ ما المردد في الشبهات الموضوعية هو المصداق الخارجي بينما المردد في الشبهات الحكمية هو الكلي، وعلى هذا لا تكون هذه القرينة تامة.
ويمكن الجواب عنه بأنَّ عنوان الشيء كما يصح إطلاقه على الموجود الخارجي كذلك يصح إطلاقه على المفهوم الكلي، فالشيء كما يشمل الموجود الخارجي يشمل المفهوم الكلي أيضاً، وبقرينة التقسيم نقول إنَّ المراد به هو المفهوم الكلي والمعنى: كل أمر كلي ينقسم الى حلال وحرام فهو لك حلال، ولكن الحديث خُص بالشبهة الحكمية بقرينة التقسيم بناءً على ما ذكره من عدم تعقل التقسيم في الشيء الخارجي، فلا موجب لحمل التقسيم على الترديد وارتكاب مخالفة الظاهر وهو التقسيم.
فتبين أنَّ الاعتراضين على القرينة الأولى ليسا واردين.
القرينة الثانية على الاختصاص بالشبهات الموضوعية هي كلمة (بعينه) الواردة في بعض هذه الروايات، فإنها قيد والأصل في القيود الاحترازية، وأما حملها على التوضيح فخلاف الظاهر، وبناءً على الاحترازية تكون قرينةً على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية، وتوضيح ذلك.