44/11/16
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ روايات الحِل
ذكرنا أنَّ حديث السِّعة قد يقال إنه مجمل باعتبار تعارض القرينتين المتقدمتين لأنَّ إحدى القرينتين تقتضي أن يكون الحديث ناظراً الى حالة عدم الصدور وهو غير نافع في مقام الاستدلال، بينما الأخرى تقتضي أن يكون ناظراً الى مرحلة عدم الوصول وهو النافع في مقام الاستدلال، ومع إجمال الحديث لا يصح الاستدلال به.
ويضاف الى ما يمنع من الاستدلال بالحديث ما تقدم من احتمال أن تكون الموضوعية عن العباد معلقة على حجب التكليف عن مجموع العباد وهو يلازم عدم الصدور لا عدم الوصول، فإن الحجب عن العباد إذا كان بنحو المجموعية وكان المقصود بالوضع عنهم هو الانحلالية فهو يساوق عدم الصدور، لأنه لو صدر وبُيّن لما كان محجوباً عن الجميع ولوصل الى البعض على الأقل فلا يتحقق موضوع الوضع وهو الحجب عن الجميع، فلابد من حمل الحديث على حالة عدم الصدور فيكون أجنبياً عن محل الكلام.
وفي قبال ذلك يقال إنَّ موضوع الوضع هو الحجب على نحو الانحلال بمعنى أنه الله سبحانه وتعالى وضع عن كل شخص ما حُجب عنه وهذا لا يساوق عدم الصدور، ولكن الاحتمال المتقدم يوجب إجمال الحديث ويمنع من الاستدلال به في محل الكلام.
وقد يُعترض على ذلك بأنَّ ما قيل في حديث الحجب يجري بعينه في حديث الرفع فلماذا بنيتم على تمامية الاستدلال بحديث الرفع واستشكلتم في الاستدلال بحديث الحجب؟ وتوضيحه:
إنَّ حديث الرفع يقول (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) فيقال إنَّ موضوع الرفع هو عدم علم الجميع، فالتكليف الذي لا يعلم به الجميع مرفوع عن كل مكلف مكلف، وهو يساوق عدم الصدور، لأنَّه إذا صدر فلازمه أن يعلم به البعض على الأقل، وعدم علم الجميع لا يكون إلا في حالة عدم الصدور، وعليه لا يصح الاستدلال بحديث الرفع لإثبات البراءة.
وجوابه: إنَّ حمل الحديث على الانحلالية أو المجموعية تابع للقرائن ولمناسبات الحكم والموضوع، ويمكن أن يدعى أنَّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي الانحلال في حديث الرفع أي بلحاظ (ما لا يعلمون) لا بلحاظ الرفع لأن الرفع كالوضع في حديث الحجب الذي لا إشكال في كونه إنحلالياً، وإنما الكلام في (ما حجب الله علمه عن العباد) وفي (ما لا يعلمون) فقد يقال إنَّ مناسبات الحكم والموضوع والقرائن العامة تقتضي حمل (ما لا يعلمون) على الانحلالية في حديث الرفع بينما لا تقتضي ذلك في حديث الحجب، وإنما يبقى احتمال الانحلالية وإحتمال المجموعية كلاهما قائم في حديث الحجب ولا قرينة تقتضي حمله على الانحلالية، وأما الرفع في حديث الرفع فهو معلق على عدم العلم بالتكليف، والارتكاز العرفي ومناسبات الحكم والموضوع تقتضي أنَّ عدم علم شخص بالتكليف يصلح أن يكون عذراً له ولا يصلح أن يكون عذراً لغيره، فلابد من حمله على الانحلال، بمعنى أنَّ التقابل بينهما يكون قرينة على الإنحلال، أي رُفعَ عن كل شخص شخص ما لا يعلمه من التكاليف، فالرفع يكون مقيداً بعدم علم الشخص الذي نرفع عنه التكليف، لا أن يكون عدم علم الجميع بالتكليف موضوعاً للرفع عن هذا الشخص، هذا ما تقتضيه المناسبات في باب حديث الرفع، وهذا بخلاف حديث الحجب إذ علُّق الوضع على الحجب عن العباد وهو قابل أن يؤخذ على نحو الانحلالية أو يؤخذ على نحو المجموعية ولا مناسبة تقتضي تعيُّن حمله على الإنحلال، فيمكن أن يكون الوضع عن العباد معلَّق على حجبه عن كل فرد فرد منهم فيكون الرفع عن هذا المكلف معلقاً على حجب التكليف عنهم، كما يمكن أن يكون الوضع عنه معلقاً على الحجب عن مجموع العباد، وذلك لأنَّ لفظ (العباد) تارة يلحظ بنحو الانحلال وأخرى بنحو المجموعية، ومع هذين الاحتمالين يبقى الحديث مجملاً فلا يصح الاستدلال به على البراءة، وهذا بخلاف حديث الرفع الذي ليس فيه ما يحتمل فيه ذلك فلا موجب لحمله على المجموعية.
ومنه يظهر أنَّ قياس المقام على جملة (يجب على العباد الصلاة) أو (أكرم العلماء) التي لا إشكال في الانحلالية فيها قياس مع الفارق.
كما يظهر أنَّ الاستدلال بالحديث لإثبات البراءة يكون مشكلاً.
محاولة المحقق العراقي
حاول المحقق العراقي قده تصحيح الاستدلال بالحديث حتى إذا فرضنا أنَّ الحجب كان بمعنى عدم صدور البيان على التكليف، بتقريب أنَّ المقصود بــ (ما وضع عنهم) ليس هو وضع الخطاب المجهول بمعنى السكوت عنه وذلك لأنَّ السكوت عنه مأخوذ في موضوع الحديث فلا معنى لتكراره في المحمول، فلابد من تفسيره بشيء آخر وهو عدم وجوب الاحتياط والمعنى حينئذٍ: ما حجب الله علمه عن العباد لا يجب عليهم الاحتياط تجاهه، وهو يعني البراءة حتى إذا فرضنا أنَّ الحديث ناظر الى التكاليف غير الصادرة، نعم هذه البراءة تثبت في مورد عدم الصدور ولا تشمل فرض عدم وصول البيان مع صدوره في الواقع إلا أنه يمكن إثبات الشمول لذلك بالتمسك بعدم القول بالفصل.
الملاحظة عليه: هناك فرق بين المقامين إذ لا يحتمل في صورة عدم الصدور أن يكون المكلف مسؤولاً تجاه تكاليف تعمد الشارع بما هو شارع إخفاؤها ولم يأمر وليه بتبليغها، بينما في موارد عدم الوصول مع احتمال الصدور تكون المسؤولية ثابتة أو محتملة الثبوت على الأقل بنظر العقل، وهذا فارق بينهما يمنع من التعدي، ويشهد لذلك ما ذكرناه من أنَّ الوضع في موارد عدم الصدور غير مقبول عرفاً لعدم توهم المسؤولية تجاه هذه الاحكام، ولو فرضنا ثبوت البراءة في موارد عدم الصدور فلا يمكن التعدي الى موارد عدم الوصول.
على أنَّ القول بعدم الفصل غير واضح فهناك قائل بالبراءة في صورة عدم الصدور مع القول بعدم البراءة في صورة عدم الوصول، فما ذكره لا يصحح الاستدلال بالحديث في محل الكلام.
هذا تمام الكلام في حديث الحجب.
روايات الحِل
وهي ثلاث روايات الأولى صحيحة عبد الله بن سنان، والثانية رواية مسعدة بن صدقة، والثالثة ما ورد في كلمات الشيخ الأعظم مع التشكيك في النص.
الرواية الأولى في كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 3 الحديث 1:
(محمّد بن علي بن الحسين بإسناده عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.)[1]
وهي تامة سنداً بلا إشكال، وبطرق مختلفة بهذا الطريق وبطريق الشيخ وبطريق الشيخ الكليني أيضاً لأنه يرويه عن: (عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد) ويكفي أحمد بن محمد في تصحيح الطريق سواء كان هو أحمد بن محمد بن عيسى أو أحمد بن محمد بن خالد فكلاهما ثقة، فالرواية صحيحة بكل طرقها.
الرواية الثانية وهي الحديث 4 من الباب نفسه، يرويه الشيخ الكليني:
(عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حُرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة.)[2]
والثالثة ما نقله الشيخ بلفظ: ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام) ويظهر من الشيخ الأنصاري في الرسائل أنه رواية أخرى غير رواية مسعدة بن صدقة، وقد صرح أكثر من واحد بعدم العثور على هذه الرواية في كتب الحديث.
وأحتمل المحقق العراقي قده أنها نقل بالمعنى لرواية عبد الله بن سليمان الواردة في الجبن في كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 61من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2:
الشيخ الكليني (عن أحمد بن محمد الكوفي ، عن محمد بن أحمد النهدي ، عن محمد بن الوليد ، عن أبان بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن سليمان ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في الجبن ، قال : كلّ شيء لك حلال ، حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة.)[3]
وذلك بتفسير قوله عليه السلام (حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة) بـــ (حتى تعرف أنه حرام).
وهناك روايات تلحق برواية عبد الله بن سنان كما سنشير إليها.
وهذه الروايات يمكن تقسيمها الى طائفتين:
الطائفة الأولى ما يذكر في صدرها تقسيم الأشياء الى حلال وحرام، كصحيحة ابن سنان وما يشبهها كرواية عبد الله بن سليمان وهي الحديث 1 من الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة:
(محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ( أبي أيّوب ) ، عن عبد الله بن سنان ، عن عبد الله ابن سليمان قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن الجبن ؟ فقال : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثمَّ أعطى الغلام درهماً ، فقال : يا غلام ابتع لنا جبناً ، ثمَّ دعا بالغداء ، فتغدّينا معه ، فأتي بالجبن ، فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا من الغداء قلت : ما تقول : في الجبن ؟ قال : أو لم ترني آكله ؟ قلت : بلى ، ولكنّي أُحبّ أن أسمعه منك ، فقال : سأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه.)[4]
ونفس هذا المضمون موجود في الحديث 7 في نفس الباب.