الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ حديث الحَجب

ذكرنا أنَّ هناك قرينتان متعاكسان إحداهما تقتضي أن يكون الحديث ناظراً الى موارد عدم صدور بيان على الحكم الشرعي، والأخرى تقتضي أن يكون الحديث ناظراً الى الأحكام في مرحلة عدم الوصول، والقرينة الأولى تقول لابد من تحكيم النظر العرفي في نسبة الحجب الى الله سبحانه وتعالى، وهو يأبى نسبة الحجب إليه في موارد عدم الوصول، لأنه بيَّن الحكم وأمر الأولياء بتبليغه، والنسبة الصحيحة إليه تعالى تكون في مرحلة ما قبل الصدور.

وهذه القرينة تقتضي حمل الحديث على موارد عدم الصدور وعدم البيان، فتدل على البراءة في تلك الموارد وهذا أجنبي عن محل الكلام، فلا يصح الاستدلال بالحديث على البراءة.

والقرينة الأخرى هي التعبير بالوضع عنهم التي تقتضي وضع شيء على العباد أو احتمال وضعه على الأقل حتى يعقل تصدي الشارع لوضعه عنهم، فوضع الشيء عن العباد فرع ثبوته عليهم، وأما الأحكام التي يعلم بعدم ثبوت المسؤولية تجاهها أو لا يحتمل ثبوت المسؤولية تجاهها فلا معنى عرفاً لتصدي الشارع لبيان وضعها عنهم، وهذا يقتضي أن يكون الحديث ناظراً الى الأحكام غير الواصلة، وهي التي يحتمل أن تكون موضوعة على العباد بمعنى وجوب الاحتياط تجاهها، فيعقل ورود الحديث لرفعها عنهم، وأما الأحكام غير الصادرة فلا تتوقع المسؤولية تجاهها ولا يحتمل ذلك أصلاً، فلا معنى لتصدي الشارع لوضعها عن العباد، وبناءً على هذه القرينة يصح الاستدلال بالحديث على البراءة في محل الكلام.

وعليه فإن استطعنا ترجيح القرينة الثانية وهي لزوم اللغوية من وضع التكاليف غير الصادرة عن العباد أمكن الالتزام بدلالة الرواية على البراءة في محل الكلام، إذ لابد من افتراض نظر الحديث الى الأحكام الشرعية غير الواصلة إلينا، وإن لم نستطع ترجيح القرينة الثانية فتكون الرواية مجملة ولا يصح الاستدلال بها.

وهناك قرينتان يمكن ذكرهما لترجيح الاحتمال الثاني، وبذلك لا ننتهي الى إجمال الرواية، وهما:

القرينة الأولى: بعد افتراض أنَّ الحديث مسوق مساق الامتنان فحينئذٍ يقال لا إمتنان في وضع التكاليف غير الصادرة عن العباد بخلاف وضع التكاليف الصادرة وغير الواصلة إليهم فإنَّ الامتنان فيها معقول، وإلا لوجب فيها الاحتياط، فالوضع الذي يعني عدم إيجاب الاحتياط فيه إمتنان على العباد، فبقرينة الامتنان يمكن القول أنَّ الحديث ناظر الى محل الكلام.

القرينة الثانية: إنَّ الحجب تعلَّق بالعلم بالحكم لا بنفس الحكم - بمقتضى ما نقله صاحب الوسائل (ما حجب الله علمه عن العباد..) - وهذا معناه أنَّ للحكم ثبوت في الواقع والله سبحانه حجب علمه عن العباد، فالحكم له وجود لكنه مجهول، ووضع الحكم عن العباد يعني إسقاطه عنهم وهو يقابل وضعه عليه أي تكليفهم به، ويستفاد من ذلك أنَّ الحكم القابل للوضع عن العباد هو الحكم القابل للوضع على العباد، وحينئذٍ يقال إنَّ الحكم القابل للوضع على العباد هو الحكم غير الواصل الى العباد، ومعنى الوضع على العباد مع كونه غير معلوم لهم هو إيجاب الاحتياط عليهم، فيكون قابلاً للوضع عنهم، وأما الاحكام غير الصادرة من قبل الشارع فهي ليست قابلة للوضع على العباد فلا تكون قابلة للوضع عنهم، فلا تكون مشمولة للحديث، وهذا يعني أنَّ الحديث يشمل محل الكلام فيصح الاستدلال به في المقام.

وهاتان القرينتان تضافان الى مرجحات الاحتمال الثاني على الاحتمال الأول، فقد يكون هذا موجباً لترجيحه وبالتالي صحة الاستدلال بالرواية في محل الكلام.

ولكن من الواضح أنَّ هاتين القرنتين تنشآن من الأمر الثاني الذي يقول أنَّ قوله (فهو موضوع عنهم) غير مقبول إلا في الأحكام التي تَثبت مسؤولية على العباد تجاهها ولو إحتمالاً، فإنها هي التي يعقل عرفاً وضعها على العباد، وهذا بخلاف الأحكام غير الصادرة عن الشارع إذ لا يحتمل وجود مسؤولية تجاهها، ومن الواضح تفرع القرينتان على ذلك، أما قرينة الامتنان فهي تقول إذا كان النظر الى الأحكام غير الصادرة فلا إمتنان في وضعها عن العباد وذلك لعدم المسؤولية تجاه هذه التكاليف، بخلاف الأحكام غير الواصلة الى المكلفين التي يحتمل المسؤولية تجاهها، ووضعها فيه إمتنان على العباد.

وأما القرينة الثانية فالمقابلة بين الوضع عن العباد والوضع على العباد متفرع على ثبوت مسؤولية تجاه هذه الأحكام، والأحكام غير الصادرة لا مسؤولية تجاهها، فلا معنى لوضعها عن العباد كما لا معنى لوضعها على العباد، وأما الأحكام التي يحتمل صدورها وعدم وصولها الى المكلف فيحتمل وضعها على العباد لاحتمال المسؤولية تجاهها، فيعقل وضعها عن العباد، فهذه القرينة متفرعة عن المسؤولية أيضاً.

وعلى كل حال إذا رجحنا القرينة الثانية على القرينة الأولى صح الاستدلال وإلا كانت الرواية مجملة ولا يصح الاستدلال بها.

ويمكن أن يضاف لتأييد هذه الاحتمال ما قيل من أنَّ المقصود بالحديث الشريف هو تعليق الموضوعية عن العباد على الحجب عنهم، فيؤخذ (ما حجب الله علمه عن العباد) على نحو المجموعية ويؤخذ الوضع عنهم (فهو موضوع عنهم) على نحو الإنحلال، فيكون المعنى أنَّ الأحكام الشرعية التي حجبها عن مجموع العباد موضوعة عن كل مكلف مكلف، فإذا استفدنا ذلك فإنَّ معناه يساوق عدم الصدور رأساً، فيرجح الاحتمال الأول على الثاني، ولا يصح الاستدلال بالرواية، وإنما يقال بذلك لأنَّ صدور الحكم لازمه العادي أن يصل الى البعض عن الأقل فلا يتحقق الحجب عن جميع العباد، وإنما يكون الحجب عن الجميع إذا لم يصدر الحكم أصلاً فيتعين تطبيقه على الأحكام غير الصادرة.

فالأحكام التي لم تصدر عن الشارع هي التي يصح أن يقال فيها أنَّ الله حجبها عن مجموع العباد، وهي التي تكون موضوعة عن العباد، فتكون الرواية ناظرة الى براءة بلحاظ الأحكام غير الصادرة وهو لا ينفعنا في محل الكلام.

وهذا الاحتمال يطرح في قبال احتمال آخر يقول أنَّ الموضوعية عن كل شخص شخص من العباد معلقة على الحجب عن كل شخص شخص، وهذا ينسجم مع الأحكام الصادرة وغير الواصلة ولا يتعين تطبيقه على الاحكام غير الصادرة، فهذا قد يجعل قرينة في المقام وتكون مؤثرة على النتيجة.