44/11/14
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ حديث الحَجب
تقدم الاشكال على الاستدلال بحديث الحجب على البراءة، وحاصله أنَّ الحديث بقرينة نسبة الحجب إليه تعالى المقصود به إثبات البراءة في صورة عدم الصدور وهو غير محل الكلام، فيكون معنى (ما حجب الله علمه عن العباد) من قبيل (ما سكت الله عنه..) وهو غير محل الكلام، ومحل الكلام هو إثبات البراءة في صورة عدم الوصول مع فرض الصدور أو إحتماله.
والجواب عنه بعد تسليم أنَّ ما ذُكر هو الظاهر، أنَّ نسبة الحجب إليه سبحانه تارة تكون بما هو مولى ومشرع، وأخرى تكون بما هو خالق ومدبر الأشياء، والإشكال مبني على الأول، بمعنى أنَّه تعالى بما هو مولى حجب التكاليف عن العباد، وهو يساوق عدم الصدور، فتكون هذه الأحكام مما سكت الله عنه، فيكون الحديث ناظراً الى إثبات البراءة في الأحكام التي لم يصدر بيان فيها، وأما لو قلنا أنَّ الإضافة إليه تعالى بما هو خالق وموجد للأشياء فهو يصدق حتى في صورة عدم الوصول مع افتراض الصدور، فلو افتراضنا صدور الحكم منه تعالى وبيان الرسول له ولكنه لم يصل إلينا للعوارض الخارجية فيصدق أنه تعالى حجبه عنا بما هو خالق الأشياء وعلة العلل حتى بلحاظ أفعال العباد الاختيارية فضلاً عن مثل الآفة السماوية وشبهها، وإذا صدق ذلك صح الاستدلال بالحديث.
وهذا الجواب مبني على أن يكون الاسناد اليه تعالى بما هو خالق ومدبر، وله قرائن:
الأولى: اضافة الحجة الى لفظ الجلالة وأنه يستبطن الخالقية والرازقية والمدبرية، وأما المُشرِّعية والمولوية فبحاجة الى مؤنة زائدة.
الثانية: أن يقال لابد أن تكون النسبة اليه تعالى بما هو خالق لا بما هو مشرع وذلك لأن نسبة الحجب إليه تعالى بما هو مشرع يلزم منه ما يشبه اللغوية في قوله (فهو موضوع عنهم) فإنَّ حجبه بما هو شارع يعني سكوته عنها وعدم أمره بتبليغها، فهي أحكام في عالم الاقتضاء والانشاء ولا يتوهم في مثلها مسؤولية العباد عنها، وحينئذٍ لا معنى لقوله (فهو موضوع عنهم) فإنَّ المعنى على هذا التقدير هو ما سكت الله عنه فهو موضوع عنهم، وهذا الوضع لا معنى له وغير مقبول عرفاً، بخلاف النسبة إليه تعالى بما هو خالق ومدبر وموجد للأشياء فإنَّ توهم المسؤولية هنا وارد لأنَّ الشارع على هذا التقدير بيَّنه وبلَّغه النبي - صلى الله عليه وآله - إلا أنه لم يصل بسبب العوارض، وهذا ما يؤيد كون الإضافة إليه تعالى بما هو خالق وموجد ومدبر.
والحاصل إنَّ التكليف إذا تعمد الشارع بما هو الشارع إخفاؤه عن العباد غير التكليف الذي حجبه الله عن العباد بما خالق وموجد، فإنَّ الأول لا يتوقع وجود مسؤولية على العبد تجاهه أصلاً حتى يتصدى الشارع لرفعها بقوله (فهو موضوع عنهم) بخلاف الثاني فإنَّ التكليف غير الواصل الى المكلف بسبب الضياع والاتلاف ونحو هذه الأمور يكون في معرض توهم المسؤولية تجاهه إذا صدر فيه البيان، فيكون تصدي الشارع لنفيها بقوله (فهو موضوع عنهم) مقبول عرفاً، وهذه قرينة على أنَّ الحجب في الحديث يضاف إليه سبحانه وتعالى بما هو خالق لا بما هو مولى.
هذا ما يمكن أن يقال في مقام دفع الإشكال المتقدم.
والنتيجة: نلتزم بما ذُكر من أنَّ الحديث يصح الاستدلال به إذا كانت الإضافة إليه تعالى بما هو خالق ولا يصح الاستدلال به إذا كانت الإضافة إليه تعالى بما هو مشرع، ولكن ندعي أنَّ الإضافة في المقام هي الإضافة إليه تعالى بما هو خالق، فيصح الاستدلال به في محل الكلام.
ولكن الظاهر أنَّ هذا المقدار لا يكفي لدفع الاشكال لأنه وإن صح معه نسبة الحجب إليه سبحانه وتعالى في موارد التكاليف غير الواصلة حتى لو كانت صادرة إلا أنَّ ذلك بحسب الدقة العقلية، وأما بحسب النظر العرفي الذي يجب تنزيل الأحاديث عليه فالظاهر أنه لا يصح نسبة الحجب إليه سبحانه وتعالى في هذه الموارد، لأنَّ المفهوم عرفاً من إسناد الحجب إليه تعالى هو ما إذا كان بالمباشرة، ولا يصح إسناده إليه عرفاً إذا لم يكن بالمباشرة وبأمره، خصوصاً إذا كان على خلاف أمره.
والحاصل أنَّ العرف لا يرى صحة نسبة الحجب إليه حتى بما هو خالق ومدبر فيما إذا كان عدم الوصول والحجب من جهة الأسباب الطبيعية أو إخفاء الظالمين، وعليه فهذا الجواب عن الإشكال لا يكون صحيحاً، فالإشكال على الاستدلال يكون محكماً، وحينئذٍ تكون البراءة المجعولة في الحديث هي البراءة فيما سكت الله عنه وهي أجنبية عن محل الكلام.
نعم بقي شيء لو تم أمكن الاستدلال بالحديث لإثبات البراءة في محل الكلام وهو الاستعانة بما أشرنا إليه سابقاً من أنَّ قوله عليه السلام (فهو موضوع عنهم) لا يكون مقبولاً إلا إذا كان هناك توهم مسؤولية تجاه الأحكام التي توضع عن العباد، وإنما نقول ذلك حتى نتعقل معنى للوضع يكون مقبولاً عرفاً، وهذا لا يكون إلا إذا كانت نسبة الحجب إليه بما هو خالق لا بما هو مولى.
وعلى هذا يحصل التنافي بين وجهين أحدهما يقتضي نسبة الحجب إليه تعالى بما هو مولى وشارع، والآخر يقتضي نسبة الحجب إليه تعالى بما هو خالق وموجد، فلابد من الملائمة بينهما والخروج بالنتيجة.