الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ حديث السعة

الحديث الثالث حديث الحَجب (ما حَجَب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)

وهذا الحديث نقله صاحب الوسائل في الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 33، قال:

(وعن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريّا بن يحيى، عن أبي عبد الله ( عليه السلام )، قال : ما حجب الله علمه عن العباد ، فهو موضوع عنهم.)[1]

ونقله عن التوحيد للشيخ الصدوق.

والكلام يقع تارة في سنده وأخرى في دلالته:

أما السند فالظاهر من كلاماتهم أنه تام إلا أنَّ بعض المحققين استشكل فيه من قبيل العلامة المجلسي في مرآة العقول، إذ علَّق عليه بأنه مجهول، ولعل السر فيه هو أنَّ الراوي المباشر (زكريا بن يحيى) غير مشخص فإنه مردد بين كثيرين وبعضهم الثقات كــ (زكريا بن يحيى الواسطي) و (زكريا بن يحيى التميمي) ولكن لم تذكر كنيتهم وهي (أبو الحسن) في ترجمتهم، بل يظهر مما نقله صاحب الوسائل في كتاب الصوم في الباب 11 من أبواب وجوب الصوم ونيته الحديث 2 قال:

(وروى ابن أبي عقيل على ما نقله العلّامة عنه قال: ذكر أبو الحسن زكريّا بن يحيى صاحب كتاب (شمس المذهب) عنهم (عليهم السلام)[2] ، أنَّ ابن أبي عقيل يروي عن زكريا بن يحيى وأنه يكنى بأبي الحسن وهو صاحب كتاب شمس المذهب بينما لم يُذكر في ترجمة الثقتين هذه الكنية.

وفي معالم العلماء ج2 ص 37 باب الزاي التسلسل 358 قال:

(أبو الحسن زكريا بن يحيى البصري له المحنة والوظائف وشمس المذهب)

فمن هنا قيل لا يعلم أنَّ (زكريا بن يحيى) الراوي لهذه الرواية من هو، وكأنهم يحتملون أنه هو الذي ذكره ابن أبي عقيل وصاحب معالم العلماء، ولكن الظاهر أنه متأخر ومن علماء القرن الرابع بينما الراوي هنا يروي عن الإمام الصادق عليه السلام، ويُستبعد أن يكون المقصود به صاحب كتاب (شمس المذهب)، وحينئذٍ إذا فرض أنَّ الأمر انحصر بين الثقتين فيكون الحديث صحيحاً، وأما إذا فرض أنه مشترك بين جماعة كما يذكر في الرجال وأنَّ بعضهم "لا حظ له من التوثيق" ويمكن أن يكون هو المقصود في الرواية فحينئذٍ لا يمكن إثبات أنَّ (زكريا بن يحيى) في هذه الرواية المقصود به هو التميمي الثقة أو الواسطي الثقة، مع ملاحظة أنَّ الكنى تذكر في تراجم الرواة خصوصاً إذا كانت مذكورة في الروايات.

وأما الدلالة فتقريب الاستدلال بأن يقال إنَّ الحديث بإطلاقه يشمل الحكم، ويدل على أنَّ الحكم المجهول موضوع عنكم، ومعنى الوضع هو عدم وجوب الاحتياط من جهته، فيدل الحديث على البراءة المعارضة لدليل وجوب الاحتياط لو تم.

وهذا الحديث أوضح من حديث الرفع من حيث شموله للشبهة الحكمية، وذلك لعدم ابتلائه بوحدة السياق الموجودة في حديث الرفع، حيث طرح احتمال اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية التي تفرضها وحدة السياق في سائر الفقرات، فتختص فقرة الاستدلال بالشبهات الموضوعية، وأما حديث الحجب فليس مبتلى بهذه القرينة فيكون ظهوره في الشبهة الحكمية أوضح من ظهور حديث الرفع فيها.

الإشكال على الاستدلال:

استشكل في الاستدلال بالحديث بأنه ناظر الى الأحكام التي لم تبين للناس لمصلحة يدركها الشارع نفسه، بمعنى أنَّ المبلغ لم يؤمر بتبليغها أصلاً فتدخل في باب (ما سكت الله عنه) ونحن مأمورون بالسكوت عنه، وأما الأحكام الشرعية التي بَيّنها المبلغ أو احتملنا أنه بَيّنها ولكنها لم تصل إلينا بسبب العوارض الخارجية فلا يدل الحديث على البراءة من ناحيتها، والنكتة في ذلك هي نسبة الحجب الى الله تعالى وأما ما بيَّنه المبلغ ولم يصل إلينا فلا يصدق عليه (أنَّ الله حجبه عنا) بل هو مما بَيَّنه وأمر نبيه صلى الله عليه وآله ببيانه، وكلامنا في ليس فذلك وإنما الكلام في أحكام بُيِّنت لنا أو احتملنا أنها بُيِّنت لنا على الأقل، وأما هذه البراءة فتثبت لنا الوضع في أحكام لم تصدر من الشارع أصلاً وهذا لا ينفعنا في محل الكلام.

وبعبارة أخرى: أنَّ الحجب المضاف الى إليه سبحانه وتعالى يقابل البيان منه سبحانه، أي إعلام المبلغين وأمرهم بالتبليغ فالمراد أنَّ ما لم يُبينه الله سبحانه وتعالى من تكاليف فهو موضوع عنهم وهذا غير محل الكلام، بل هو أمر مُسلَّم عند الجميع لأنَّ المحجوب مجرد حكم إنشائي اقتضائي ليس له أثر.

وأُجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: سلَّمنا الإضافة الى الله سبحانه، إلا الإضافة يمكن تصورها على نحوين، وذلك لأنَّ الحجب تارة يضاف اليه تعالى بما هو شارع ومولى، وأخرى يضاف إليه بما هو خالق ومدبر وموجد الأشياء، وفرق بين الإضافتين، والإشكال مبني على الأول فالحجب الذي يصدر منه تعالى بما هو مشرع يعني أنه مما لم يأمر النبي ببيانه فيدخل في باب (ما سكت الله عنه) فيتم الإشكال، وأما إذا قلنا أنَّ الإضافة إليه تعالى من النحو الثاني أي بما هو خالق وموجد فلا يتم الإشكال لأنَّ الأحكام تكون مما بَيَّنها النبي - صلى الله عليه وآله - أو نحتمل أنه بيَّنها ولكنها لم تصلنا للعوارض الخارجية وحينئذٍ يصح القول أنه تعالى بما هو خالق حجبها عنا باعتباره منتهى سلسلة العلل، وعليه لا يتم الإشكال.

والتعليق عليه: إنَّ هذا الوجه ذكر ما يبتني عليه الإشكال ولم يُبين ما هو الصحيح منها، وهذا ما يحتاج الى تأمل، ويمكن أن تُذكر قرينتان على أنَّ المقصود هو الثاني أي الإضافة إليه تعالى بما هو خالق الأشياء.

القرينة الأولى: الاستناد الى لفظ الجلالة الذي يستبطن الخالقية والموجدية والرازقية والمدبرية، وأما حيثية المولوية فهي وإن كانت مستبطنة أيضاً ولكنها بحاجة الى مؤنة زائدة.

القرينة الثانية: أنَّ ما يخفيه الله تعالى بما هو مولى لا يحتمل فيه ترتب المسؤولية على العباد تجاهه حتى يأتي الحديث لنفيها ويضع السعة تجاهها، بل لا يتوهم ذلك أصلاً، وإنما تكون المسؤولية محتملة ومما يمكن توهمها عندما يكون الحجب مُسنداً إليه بما هو خالق، أي يكون الحكم مما بُيِّن أو نحتمل بيانه إلا أنه حجب عنا بواسطة العوارض الخارجية، ومن المقبول جداً أن يتصدى الحديث لبيان عدم المسؤولية تجاهه، وهذا قرينة على أنَّ الحجب مضاف إليه بما هو خالق وموجد لا بما هو مولى وشارع.

 


[1] الوسائل ج27 ص163.
[2] الوسائل ج10ص55.