الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ حديث السعة

ظهر مما ذكرنا أمران:

الأول: إتفاق الأصحاب على دلالة حديث السعة على البراءة المطلوبة بناءً على أنَّ (ما) موصولة.

الثاني: أنَّ هناك نزاعاً في دلالة الحديث على البراءة المطلوبة فيما لو كانت (ما) مصدرية.

ومنشأ الخلاف في الثاني هو أنَّ عدم العلم هل يراد به عدم العلم بالواقع أو عدم الأعم من الواقع والظاهر، وعلى الأول تثبت البراءة المطلوبة أي المعارضة لأدلة الاحتياط، ولا تثبت على الثاني لأنَّ أدلة وجوب الاحتياط توجب العلم بالظاهر فتكون رافعة لموضوع السعة والتأمين وحاكمة على البراءة، فلا يصح الاستدلال بها.

المناقشة في الأمرين المتقدمين:

وقد يناقش في كل واحد منهما، أما الأمر الأول فبأنه ليس على إطلاقه لأنّ (ما) إذا كان موصولة كانت السعة مضافة إليها والتقدير (الناس في سعةِ ما لا يعلمون) ولكن الإضافة يمكن تصورها على نحوين وكلامهم يتم على أحدهما دون الآخر، وبيان ذلك:

الاضافة إما سببية وإما موردية فإذا كانت الإضافة سببية بمعنى إضافة السعة الى ما يكون سبباً في رفع الضيق، ويكون الغرض منها هو نفي سببية هذا الشيء للضيق وذلك بجعل التأمين والسعة من ناحيته، فيكون مفاد الحديث هو أنَّ الانسان يكون في سعة بسبب ما لا يعلمه، وهذا الشيء هو التكليف الواقعي، فالبراءة تقول أنت في سعة من ناحية التكليف الواقعي المجهول وليس هذا سبباً للضيق.

ويقول المناقش إنَّ البراءة بهذا البيان لا تنافي دليل وجوب الاحتياط وذلك لأنها مجعولة من ناحية التكليف الواقعي المجهول وهذا لا ينافي أن يكون المكلف في ضيق من ناحية تكليف آخر وهو وجوب الاحتياط، فإذا دلت الأدلة على وجوب الاحتياط يقع المكلف في ضيق من ناحيتها، فلا تنفع في المقام.

وأما إذا كانت الإضافة موردية بمعنى أنَّ السعة مضافة الى ما يكون مورداً لها بهدف نفي مورديته للضيق وإنما هو مورد للسعة، ويكون مفاد الحديث هو أنَّ الإنسان لا يكون في ضيق في مورد عدم العلم بالحكم، وبناءً عليه يتم الاستدلال لأنَّ هذه البراءة تكون معارضة لدليل وجوب الاحتياط لأنه يثبت الاحتياط والضيق في نفس هذا المورد.

والخلاصة الإضافة إذا كانت سببية فلا يتم الاستدلال بالحديث ولا تثبت البراءة المطلوبة، وإذا كانت موردية تم الاستدلال.

وأما الأمر الثاني فالمناقشة فيه بأنَّ مجرد أن يراد بعدم العلم المجعول غاية للسعة عدم العلم بالواقع هذا لا يجعل مفاد الحديث معارضاً لأدلة البراءة، وذلك لأنَّ السعة لابد أن تتعلق بشيء كأن يقال: الناس في سعةٍ من الشيء ما داموا لا يعلمون، فلابد من تعلق السعة بمقدر، والسياق يقتضي أن يكون ما لا يعلمونه هو نفس الشيء الذي هم في سعة منه، وبناءً عليه يقول المناقش يأتي الاحتمالان المتقدمان أي التفصيل في إضافة السعة الى الشيء بين أن تكون إضافة موردية أو تكون إضافة سببية حتى إذا قلنا أنَّ المقصود بعدم العلم المأخوذ في موضوع التأمين هو عدم العلم بالواقع، فإن كانت الإضافة موردية كان المعنى: الناس في سعةٍ في مورد شيء ما داموا لا يعلمونه، وهذا ينافي دليل وجوب الاحتياط لأنّ الأخير يثبت الضيق في نفس مورد ثبوت السعة والتأمين.

وأما إذا كانت الإضافة سببية فيأتي فيها الكلام المتقدم والمعنى حينئذٍ أنَّ الحكم المجهول ليس سبباً للضيق، وهذا لا ينافي دليل وجوب الاحتياط لأنَّ دليل البراءة ينفي الضيق من ناحية التكليف الواقعي المجهول ولا ينافي الضيق من ناحية دليل وجوب الاحتياط، فالبراءة هنا ليست معارضة لدليل وجوب الاحتياط فلا تثبت البراءة المطلوبة.

الملاحظة على هذه المناقشة:

أما الأمر الأول ففيه: إنَّ التفريق بين الإضافة السببية وبين الإضافة الموردية غير واضح، بل الظاهر أنَّ الحديث ينافي أدلة وجوب احتياط على كلا التقديرين، أما على تقدير الإضافة الموردية فواضح كما ذُكر في المناقشة، وأما بناءً على الاضافة السببية فغير صحيح لأنَّ الظاهر من الحديث هو نفي الضيق في مورد الجهل من ناحية الحكم المجهول إنما هو في مقابل جعل الضيق في مورد الجهل من ناحيته ومن الواضح أنَّ الضيق المجعول هو نفس وجوب الاحتياط وبذلك يكون منافياً لدليل وجوب الاحتياط، إذن لا يصح أن يقال بأنَّ دليل الاحتياط لا ينافي الحديث لأنَّ الأخير ينفي الضيق من ناحية الحكم المجهول وهو لا ينافي الضيق المجعول بدليل الاحتياط وذلك لأنَّ الضيق المنفي بالحديث هو عبارة عن إيجاب الاحتياط، فالصحيح هو أنَّ (ما) إذا كانت موصولة فالمعارضة حاصلة على كلا التقديرين.

وأما الأمر الثاني ففيه: أنه لا فرق في هذه الحالة بين أن تكون الاضافة موردية أو تكون سببية فإنه إذا كان عدم العلم المجعول غاية للسعة هو عدم العلم المطلق - أي بالواقع والظاهر - فلا منافاة وتكون البراءة في الحديث محكومة لدليل الاحتياط من دون فرق بين نوعي الاضافة، وإذا كان هو عدم العلم بالواقع خاصة حصلت المنافاة بينهما وثبتت البراءة المطلوبة سواءً كانت الاضافة موردية أو سببية، فالمناط على المراد من العلم الذي جُعل عدمه قيداً في السعة.

ومن هنا يظهر أنَّ المهم هو تحقيق ما هو المراد بعدم العلم، ولا يبعد أن يراد به عدم العلم بالواقع لأنَّ المعنى بناءً على الإضافة التقديرية هو أنَّ الناس في سعة من الشيء ما داموا لا يعلمونه، والمراد بالشيء هو الحكم الواقعي المجهول، ومن الواضح أنَّ السعة المجعولة ما داموا لا يعلمون بالحكم الواقعي تنافي وجوب الاحتياط، فالظاهر تمامية الاستدلال بالحديث على البراءة المطلوبة بنحو تكون معارضة لدليل وجوب الاحتياط.

هذا تمام الكلام في حديث السعة.