44/11/09
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ حديث السعة
الحديث الثاني: حديث السعة (الناس في سعةِ ما لا يعلمون)
هذا النص ليس موجوداً في الكتب الحديثية المعروفة وإنما نُقل عن كتاب عوالي اللئالي، ففي المستدرك نقل الحديث في الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 4 الجزء 18عن عوالي اللئالي، وهو مرسل ونصه: (الناس في سعةٍ ما لم يعلموا)[1] .
نعم ورد في حديث السُّفرة ما يشابه هذه العبارة وهي (هم في سعةٍ حتى يعلموا)، والرواية هي:
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سُئل عن سُفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين، فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): يُقوّم ما فيها ثمّ يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدري سفرة مسلم أم سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا)[2] .
والسند تام عند من لا يتوقف في النوفلي، لكن الظاهر أنَّ الحديث في الرواية أجنبي عن محل الكلام، ولا يمكن الاستدلال به على البراءة، وذلك لما تقدم من أنَّ الاستدلال على البراءة الشرعية على نحو تكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط لا أن تكون محكومة لها كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنَّ القاعدة العقلية تفيد التأمين عند عدم البيان ووجوب الاحتياط لو تم يكون بياناً ورافعاً لموضوع البراءة إذا كانت مقيدة بعدم البيان، ومن هنا تكون أدلة وجوب الاحتياط مقدمة وحاكمة على أدلة البراءة العقلية، فالمراد إثباته هو البراءة المعارضة لأدلة وجوب الاحتياط، وهذا الحديث يثبت التأمين ولكنه مُغيى بالعلم، وقد يقال إنَّ أدلة وجوب الاحتياط بيان وعلم لأنَّ المراد بالعلم هو الأعم من العلم الوجداني والعلم التعبدي الثابت بالأدلة، وأدلة وجوب الاحتياط إذا تمت رفعت السعة والبراءة، فمن هنا لا يكون هذا النص في الرواية المعتبرة نافعاً في محل الكلام.
مضافاً الى أنَّ مورد الرواية هو الشبهة الموضوعية وإثبات البراءة فيها لا ينفعنا فإنَّ المراد هو إثبات البراءة في الشبهة الحكمية وهو غرض الأصولي، فالاستدلال بهذه الرواية يكون مشكلاً من هذه الجهة.
وهناك إشكال آخر في رواية السُّفرة وهو احتمال أن تكون هذه البراءة ثابتة من جهة وجود أمارة وهي بلاد المسلمين وسوقهم فالحكم بالحلية من هذه الجهة، وهذا حكم مع وجود الأمارة، والمطلوب هو الحكم بالحلية مع عدم الأمارة، وعليه لا يصح الاستدلال بالرواية في محل الكلام.
ومن هنا يظهر أنَّ النص المُستدل به على البراءة هو النص الأول (الناس في سعةِ ما لا يعلمون) الذي نُقل في المستدرك عن عوالي اللئالي.
دلالة الحديث على البراءة:
اختلفوا في دلالة الحديث على البراءة بنحو تكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط، على رأيين:
الرأي الأول: يقول بدلاتها على البراءة بتقريب أنَّ الاسم الموصول (ما) أضيف إليه كلمة (سعة) فيكون المعنى: (الناس في سعةِ الذي لا يعلمونه)، أي الناس في سعةٍ من ناحية الحكم الواقعي المجهول، وهذه هي البراءة التي تكون معارضة لما دلَّ على وجوب الاحتياط، لأنَّ دليل وجوب الاحتياط يثبت عدم السعة من ناحية الحكم المجهول، فأحد الدليلين يثبت السعة بلحاظ الحكم المجهول والآخر ينفيها، فيتعارضان وهو المطلوب.
نعم إذا قلنا أنَّ (ما) ليست موصولة وإنما هي مصدرية زمانية فلا يصح الاستدلال بالرواية على البراءة، والمعنى على هذا هو: (الناس في سعة ما داموا جاهلين)، وهذا لا يثبت البراءة المعارضة لأدلة وجوب الاحتياط، ويكون مفاده مشابه لمفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ودليل وجوب الاحتياط بيان فيرفع موضوع القاعدة العقلية المقيدة بعدم البيان، فالاستدلال بهذه الرواية يتوقف على أن تكون (ما) إسم موصول أضيف إليه لفظ (سعة).
الرأي الثاني: الرواية دالة على البراءة على كلا التقديرين في (ما) أما بناءً على أنها إسم موصول فواضح كما تقدم، وأما على تقدير كونها مصدرية زمانية فباعتبار أنَّ العلم الذي جُعل عدمه غاية للبراءة والسعة وأُخذ عدمه في موضوع السعة هل يراد به العلم بالواقع أو العلم الأعم من الواقع والظاهر؟
فإن أريد به العلم بالواقع فيمكن أن يقال إنَّ هذه البراءة معارضة لأدلة وجوب الاحتياط ويصح الاستدلال بها وذلك باعتبار أنَّ مفادها على هذا التقدير هو: (الناس في سعةٍ ما داموا غير عالمين بالواقع)، وأدلة وجوب الاحتياط تقول يجب الاحتياط ما دمتَ غير عالم بالواقع، فيتعارضان، وأدلة الاحتياط لا توجب العلم بالواقع حتى تكون رافعة لموضوع السعة وحاكمة عليها.
وإن أريد بالعلم الأعم من العلم بالواقع والعلم بالظاهر فتكون البراءة محكومة لأدلة وجوب الاحتياط وذلك لأنَّ مفادها على هذا التقدير (الناس في سعة ما لم يعلموا بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري) ودليل وجوب الاحتياط يوجب العلم بالحرمة ظاهراً فيرفع موضوع السعة ويكون حاكماً على البراءة.
والحاصل يمكن الاستدلال على البراءة على كلا التقديرين إما على كون (ما) موصولة فواضح، وأما على كونها مصدرية زمانية فواضح أيضاً ولكن إذا قلنا أنَّ العلم الذي أُخذ عدمه موضوعاً للسعة يراد به العلم بالواقع.
وبناءً على هذا الرأي يمكن القول بأنَّ الرواية تكون دالة على البراءة المطلوبة على كل تقدير.
ويظهر من هذا الكلام أمران كل منهما محل كلام:
الأول: أنَّ هناك إتفاق على دلالة الرواية على البراءة إذا كانت (ما) إسماً موصولاً أضيف إليها لفظ السعة.
الثاني: أنَّ النزاع في الدلالة إذا كانت (ما) مصدرية زمانية، ومنشأ النزاع هو أنَّ العلم الذي أُخذ عدمه في موضوع هذه البراءة هل يراد به العلم بالواقع أو الأعم منه ومن العلم بالظاهر، فعلى الأول تدل الرواية على البراءة وتكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط، وأما على الثاني فلا تدل على ذلك، فينبغي التأمل في هذين الأمرين:
أما الأمر الأول فقد يناقش في دلالتها على البراءة حتى إذا كانت (ما) إسماً موصولاً وذلك باعتبار أنَّ إضافة السعة الى (ما) يمكن تصورها على نحوين:
فتارة نفترض أنها من قبيل إضافة الشيء الى سببه، أي إضافة السعة الى ما يُترقب أن يكون سبباً لعدمها وهو الضيق والتقدير: (الناس في سعةِ الشيء الذي يُترقب أن يكون مصدراً للضيق)، والغرض منه نفيه وإثبات السعة، وبناءً على هذا لا تثبت البراءة المطلوبة لأنَّ الحديث يكون مفاده هو أنَّ الإنسان لا يكون في ضيق بسبب ما لا يعلمه، أي الناس في سعة من ناحية التكليف الواقعي المجهول، ولكن هذا لا يكون منافياً لأدلة وجوب الاحتياط لأنه يثبت السعة من ناحية التكليف الواقعي المجهول لا من ناحية أدلة وجوب الاحتياط، وقد يكون الإنسان في سعة بلحاظ الحكم الواقعي المجهول ولكنه لا يكون كذلك إذا قام لديه دليل ظاهري على وجوب الاحتياط، فيجب عليه الاحتياط ولا منافاة بينهما.