الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع

كان الكلام في الخطأ والنسيان وما هو المقصود بالرفع فيهما، وقلنا أنَّ المرفوع هو الفعل الذي يحصل به الخطأ والنسيان لا العناوين نفسها، وبناءً عليه يكون الخطأ والنسيان كالإضطرار والإكراه فالمرفوع فيها جميعاً وهو الفعل، ومعنى رفع الفعل هو رفع الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي بسبب الإضطرار أو الإكراه أو الخطأ أو النسيان فتكون هذه العناوين حيثيات تعليلية لرفع آثار الفعل المترتبة عليه بعنوانه الأولي فلا فرق بين الخطأ والنسيان من جهة وبين ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه من جهة أخرى.

وأما الدليل عليه فيتألف من قرائن:

القرينة الأولى: وحدة السياق في الجمل المتعاطفة فإنَّ المرفوع بسبب هذه العناوين هو الفعل فيكون كذلك في فقرتي الخطأ والنسيان.

القرينة الثانية: أن يقال إنَّ المناسبات العرفية تقتضي أن يكون الخطأ سبباً في رفع آثار الفعل نفسه وأنَّ الخطأ حيثية تعليلية وواسطة في العروض تقتضي أن يكون الرفع متوجهاً الى الغير وهو الفعل، فالمرفوع هو الآثار المترتبة على الفعل لا الآثار المترتبة على نفس هذه العناوين.

القرينة الثالثة: إنَّ الخطأ يمكن أن يراد به الفعل الذي يتحقق به الخطأ وهو تعبير متعارف، وكذا الفعل الذي تحقق به النسيان، منه قوله تعالى ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَو أَخطَأنَا﴾[1] فالمقصود هنا هو الفعل الذي يتحقق به الخطأ والنسيان والمؤاخذة تكون على الفعل، فلعل المقصود بالخطأ والنسيان في حديث الرفع هو الفعل الذي يتحققان به.

هذه قرائن لتأييد ما ذُكر في أجود التقريرات.

الجهة السادسة: خروج بعض الآثار عن إطلاق الحديث تخصصاً أو تخصيصاً

إتفقوا على أنَّ الحديث بإطلاقه لا يشمل بعض الآثار من قبيل أثر ملاقاة النجاسة وهو التنجس، ووجوب الغسل الذ هو أثر مترتب على حصول موجب الجنابة، وهذه الآثار تترتب على موجبها إذا حصل على كل حال، فإذا حصلت الملاقاة ثبتت النجاسة سواءً تعنونت بأحد العناوين التسع أو لم تتعنون بها، فالحديث لا يشمل مثل هذا الأثر، فإذا حصل موجب الجنابة اضطراراً أو إكراهاً ترتب وجوب الغسل ولا يمكن لحديث الرفع أن يرفعه، فعدم شمول حديث الرفع لهذه الآثار قضية مسلمة ولا إشكال فيها، وإنما الخلاف في أنَّ هذا خروجها هل هو خروج تخصيصي وهو يعني شمول الحديث لها أولاً وإنما خرجت بالدليل، أو أنَّ خروجها تخصصي وهو يعني أن الحديث لا يشمل هذه الآثار أصلاً، وهذا هو المبحوث عنه في هذه الجهة.

المعروف عن المحقق النائيني قده هو القول بالخروج التخصيصي وأنَّ المخصص هو الإجماع، وهذا يعني أنَّ الحديث فيه قابلية شمول هذه الآثار.

وأما السيد الخوئي قده فقال بالخروج التخصصي بمعنى أنَّ الحديث لا يشمل هذه الآثار، وإستدل عليه بأنه يعتبر في شمول الحديث لمورد أن يكون الحكم المرفوع مترتباً على فعل المكلف بما هو فعل له، فلا يشمل الآثار المترتبة على ما لا يُعتبر فعلاً للمكلف، ولذا يُفرق بين الأثر المترتب على شرب الخمر كالحرمة والحد وهو فعل للمكلف وبين الأثر المترتب على الملاقاة وهو النجاسة فإنها - أي الملاقاة - وإن صدرت من المكلف ولكن الأثر لا يترتب على فعل المكلف وإنما يترتب على ذات الملاقاة، ولذا يحصل الأثر ولو لم تكن الملاقاة إختيارية، كما لو طار الثوب ولاقى النجاسة، وكذا الكلام في وجوب الغسل فهو يترتب على حدوث موجوب الجنابة لا باعتباره فعلاً إختيارياً للمكلف فلو صدر الموجب اضطراراً ترتب عليه وجوب الغسل، فمثل هذه الآثار لا يشملها الحديث فيكون خروجها تخصصياً، وعليه لا موجب للإستدلال على خروجها بالإجماع، وهذا بخلاف الحرمة والحد المترتبان على شرب الخمر باعتباره فعلاً صادراً من المكلف.

ثم عمم الكلام لغير ذلك كما في وجوب قضاء ما فات اضطراراً فالحديث لا يرفع وجوب القضاء باعتباره أثراً للفوت الحاصل اضطراراً، وذلك باعتبار أنَّ وجوب القضاء لا يترتب على الفوت باعتباره فعلاً للمكلف وإنما يترتب على ذات الفوت، فالآثار المترتبة على ذات الشيء لا على الشيء بما هو فعل للمكلف لا يشملها الحديث.

وهذه الدعوى إن تمت كان الخروج تخصصياً، والوجه فيها هو أن يقال:

إنَّ الحديث مفاده رفع الأثر الثابت للفعل بعنوانه الأولي عندما يتعنون بواحد من هذه العناوين، فهو يرفع الأحكام والآثار المترتبة على فعل المكلف في حال صدوره عن اضطرار مثلاً، وأما الأثر الذي لا يترتب على فعل المكلف فلا يرفعه الحديث.

وبعبارة أخرى ما يرفعه الحديث هو فعل المكلف وهذه الآثار لا تترتب على فعل المكلف فالنجاسة ليست أثراً لفعل المكلف وإنما هي أثر لذات الملاقاة، ولذا لا يشملها الحديث، بل هناك قصور في المقتضي عن شمولها.

واعترض عليه بأنَّ ما ذكر لا يرفع الإشكال في جميع الموارد من قبيل إتلاف الأمين المال نسياناً فيترتب عليه الضمان فهل يرفع الحديث الضمان لحصوله نسياناً؟

إتفقوا على عدم جريان الحديث هنا بالرغم من أنَّ الضمان أثر للإتلاف وهو فعل المكلف، بينما مقتضى كلامه هو شمول الحديث له، ونحوه مس الميت الذي يترتب عليه وجوب غسل المس، فإذا صدر المس من المكلف نسياناً أو إكراهاً فلا يرفعه الحديث بالاتفاق بالرغم من كونه أثراً لمس الميت بما هو فعل للمكلف.

ويمكن أن يُفسر كلام السيد الخوئي قده بنحو لا يرد عليه هذا الإعتراض، وذلك بأن يقال:

يحتمل أنه يريد أنَّ العناوين المذكورة في حديث الرفع توجب رفع الآثار المترتبة على الفعل ولكن مقصوده هو رفع الآثار المترتبة على ما يُسند الى المكلف، وكأنّ طرو واحد من هذه العناوين على الفعل يوجب ضعف الإسناد وعلى هذا الأساس ترتفع الآثار، ففرق بين شرب الخمر إختياراً وشربه اضطراراً وإسناد شرب الخمر في الثاني غير إسناده في الأول، فإنَّ إسناد الفعل مع الإضطرار والإكراه يكون إسناداً ضعيفاً وعلى هذا الأساس ترتفع هذه الآثار، وذلك باعتبار أنَّ هذه الآثار تترتب على الفعل الذي يُسند الى المكلف وهذا يكون عندما لا تطرأ واحدة من هذه العناوين، وأما إذا طرأت ضعف الإسناد الى المكلف فلذا ترتفع هذه الآثار.

وبناءً عليه يندفع الإعتراض السابق لأنَّ الميزان ليس ما ذُكر وإنما هو الإسناد وعدم الإسناد، ويمكن أن يقال ذلك في النسيان أيضاً فالإسناد في حال النسيان ضعيف أيضاً فلا فرق بين النسيان وسائر العنوانين خلافاً لمن يقول بالفرق بينهما، كما أنَّ الميزان ليس هو تعلق العنوان بالفعل حتى يقال إنه يصح في الإضطرار ولا يصح في غيره.


[1] السورة بقره، الأية 286.