الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع

ذكر المحقق العراقي قده أنَّ حديث الرفع لا يشمل موارد الإضطرار أو الإكراه بسوء الإختيار ولا يرفع آثارها، ويختص بموارد الإضطرار أو الإكراه لا بسوء الإختيار ويرفع آثارها.

وقلنا يمكن الإستدلال لعدم الشمول بدعوى عدم صدق الإضطرار والإكراه على الفعل الصادر بسوء الإختيار عرفاً فيكون خارجاً عن الحديث موضوعاً، وهذا الوجه إذا كان صالحاً لعدم شمول الحديث فهو لا يصلح لأن يكون مبرراً لعدم شمول الحديث لموارد النسيان بسوء الإختيار، وذلك لإمكان القول بأنَّ العرف يعتبر المضطر بسوء إختياره مختاراً وأما في باب النسيان فلا يعتبره العرف كذلك وإن كان نسيانه بسوء إختياره - بأن يُفترض عدم تحفظه على الواجب فنسيه - فإن صدق عليه النسيان عرفاً فلم لا يشمله الحديث؟

وقلنا في جوابه إنه قد يذكر وجه آخر لعدم شمول الحديث لا يختص بالمضطر بل يشمل كلاً منهما، وهو أن يقال:

إنَّ المضطر بسوء إختياره قبل أن يصل الى مرحلة الإضطرار كان الفعل صادراً منه بالإختيار، فمن ألقى بنفسه من شاهق كان مختاراً في فعله هذا، ويصدق عليه أنه فعل حراماً، وبهذا اللحاظ تثبت آثار الفعل عليه، ولا ترتفع إذا حصل الإضطرار بسوء الإختيار بعد ذلك، ونفس الكلام يقال في النسيان فيقال إنَّ الناسي لو فُرض وجوب التحفظ عليه من النسيان - كما في من حفظ شيئاً من القرآن - وتركه فأدى ذلك الى النسيان فترك الواجب نتيجة لترك التحفظ، فتركه للتحفظ يعتبر تركاً للواجب ويترتب عليه أثره، ولا يرتفع بحديث الرفع لأنَّ ترتبه باعتبار حال التذكر لا حال النسيان، وهذا الوجه إن تم فهو كما يجري في موارد الإضطرار بسوء الإختيار يجري في موارد النسيان كذلك.

أقول: العمدة في عدم شمول حديث الرفع لموارد الإضطرار بسوء الإختيار هو دعوى عدم صدق الإضطرار عرفاً في هذه الموارد، ولا يجري هذا الوجه في باب النسيان لوضوح أنَّ الناسي يصدق عليه النسيان عرفاً حتى لو كان ذلك بسوء الإختيار، وعليه: فإما أن نلتزم في باب النسيان بأنَّ هذا الفعل بلغ من الأهمية عند الشارع بحيث أوجب التحفظ عليه من ناحية النسيان أو قل حرم عليه أن ينساه، فلو فرضنا أنه ترك التحفظ من النسيان - كما لو كان تكرار السورة حفظاً لها من النسيان - فتركَ التكرار، فيكون بذلك تاركاً للواجب، فيترتب على ذلك آثار ترك الواجب لأنه حين تركه كان متذكراً، ولا ترتفع هذه الآثار بحديث الرفع.

وإما أن نلتزم بأنَّ المضطر بسوء الإختيار والناسي كذلك لا يستحقان الإمتنان، فإذا آمنا بأنَّ قرينة الإمتنان ثابتة في الحديث فهذا يقتضي أن يختص بخصوص الموارد التي فيها إمتنان وهو المضطر والناسي لا بسوء الإختيار، ولا يشمل موارد الإضطرار ولا النسيان بسوء الإختيار، وعدم الإستحقاق المذكور يكون أشبه بالقرينة المتصلة المانعة من إطلاق الحديث وشموله لموارد الإضطرار والنسيان بسوء الإختيار.

الجهة الخامسة: تحديد المرفوع في فقرتي (الخطأ والنسيان)

تعرض المحقق النائيني قده كما في أجود التقريرات الى مسألة رفع الخطأ ورفع النسيان، وذكر أنه لا يراد برفعهما رفع نفس هذه العناوين (الخطأ، النسيان) كأنه لا وجود لها تشريعاً، وذلك لأنه يستلزم أن نجري أحكام العامد على المخطئ وأحكام الملتفت على الناسي وهو باطل لأنه خلاف الإمتنان، وإنما المراد هو رفع الفعل الصادر حال الخطأ وحال النسيان، فيكون رفعه كالرفع في (ما اضطروا إليه) و (ما استكرهوا عليه) أي رفع الفعل المضطر إليه والفعل المُكره عليه، وهو يعني رفع الآثار الشرعية المترتبة على الفعل بعنوانه الأولي.

ولوحظ عليه: إنَّ ما ذكره من أنَّ المراد بالرفع هو رفع الفعل الصادر حال الخطأ وحال النسيان صحيح لكن الدليل الذي ذكره - وهو لزوم ثبوت أحكام العامد للمخطئ وثبوت أحكام الملتفت للناسي وهو خلاف الإمتنان - فيه نظر لأنه مبني على أحد الآراء الثلاثة المتقدمة في مسألة الرفع وهي أنَّ المرفوع إما هو المؤاخذة أو يقال أنَّ الرفع التشريعي للوجودات الحقيقية لهذه العناوين، أو الرفع الحقيقي للوجودات التشريعية لهذه العناوين، وكأن ما ذكره مبني على الرأي الثاني - أي الرفع التشريعي للوجودات الحقيقية لهذه العناوين - فإذا فرضنا أنَّ الرفع تعلق بعنوان الخطأ والنسيان فهو يعني تنزيل الخطأ منزلة العدم أي إعتبار المخطئ عامداً، وتنزيل النسيان منزلة العدم أي إعتبار الناسي متذكراً، وهذا يعني ترتب أحكام العمد على الخطأ وترتب أحكام الملتفت المتذكر على الناسي، وهذا خلاف الإمتنان فيتم هذا الوجه ولكن على الرأي الثاني.

وأما على الرأي الثالث المختار - الرفع حقيقي للوجودات التشريعية لهذه العناوين - فهو يعني بحسب الحقيقة أنَّ هذه العناوين لم تقع موضوعاً لأثر شرعي في عالم التشريع، فماذا لا يقال بأنَّ الرفع يتوجه لنفس هذه العناوين دون رفع الفعل؟

الجواب: هذا لا يمكن الإلتزام به في هذه الموارد لأنَّ عنوان (الخطأ) إذا كان هو المرفوع فهو يعني وجوب الدية إذا حصل القتل خطأً ونفي وجوب سجدتي السهو إذا حصل موجبهما في الصلاة، وهذا ما لا يمكن الإلتزام به لأنه يودي الى أن يكون ما يوجب هذا الأثر وما يرفعه واحداً وهو نفس عنوان (الخطأ) وذلك لأنَّ الأدلة الخاصة تقول تجب الدية في القتل الخطأ أي أنَّ الخطأ هو السبب في وجوب الدية دون القصاص، ولا يعقل أن يكون الخطأ نفسه سبباً في إرتفاع هذه الآثار، هذا غير معقول.

ومن هنا نحتاج لتأييد ما ورد في أجود التقريرات من أنَّ المرفوع في هذه الموارد هو الفعل الصادر عن خطأ والفعل الصدر عن نسيان أن نقول ليس الدليل عليه هو ما ذكره وإنما هو أحد أمرين:

الأول التمسك بقرينة وحدة السياق بأن نقول أنَّ المرفوع في معظم الفقرات هو الفعل، وبمقتضى وحدة السياق يكون المرفوع في فقرتي (الخطأ) و (النسيان) هو الفعل أيضاً.

مع ملاحظة أنَّ هذا لا يمكن تطبيقه في بعض الفقرات كالحسد والطيرة والوسوسة في الخلق، لأنها عناوين أولية وليست كسائر الفقرات، ولها معالجات تختص بها.