الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/11/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع

تقدم ما ذكره السيد الخوئي قده من أنه يُشترط في جريان الحديث في موردٍ أن يكون في الرفع إمتنان على الأمة بالإضافة الى الإمتنان على الشخص نفسه، وقلنا إنَّ هذا مبتني على أنَّ المراد من الأمة هو لحاظها بنحو العموم المجموعي وهو غير واضح، وأنَّ إحتمال أن تكون الأمة ملحوظة بنحو الإستغراق وارد جداً، بل هو الظهور الأولي لمثل هذه التركيبات.

ويضاف الى هذا أنَّ الحديث بناءً على ما ذُكر لا يشمل موارد الإكراه على القتل أو الضرب لأنَّ رفع الأثر الشرعي للقتل في حق المُكره وإن كان فيه إمتنان عليه ولكن ليس فيه إمتنان على الأمة لأنَّ لازمه الإضرار بالمقتول أو المضروب فيكون خلاف الظاهر لأنَّه يعتبر فيه الإمتنان على مجموع الأمة، وهذا المورد ليس فيه إمتنان على مجموع الأمة بل فيه إضرار ببعض الأمة وهو المقتول أو المضروب.

أقول: إنَّ الحديث وإن كان لا يجري في هذا المورد لما ذكروا ولكن لا ينبغي أن لا يجري في مورد آخر إتفقوا على جريانه فيه وهو بيع المكره، فقد إتفقوا على جريان الحديث لرفع صحة بيع المكره وأنَّ فيه إمتنان عليه، ولكن رفع الصحة عن بيع المكره والحكم بفساده ليس فيه منة على الأمة، بل حتى في مثل الإضطرار الى شرب الخمر أو الإكراه عليه فإنَّ الحديث يجري فيه لرفع الآثار المترتبة على شرب الخمر من الحرمة والحد مع أنَّ رفعها ليس فيه إمتنان على الأمة، فإذا إشترطنا ذلك في كل رفع فينبغي أن نحكم في هذه الموارد بعدم جريان الحديث، والحال أنهم إتفقوا على جريانه فيها!

والحل أن نقول: إنَّ الشرط ليس ما ذُكر وإنما الشرط جريان الحديث في موردٍ مضافاً الى الإمتنان على الشخص نفسه هو أن لا يكون في هذا الرفع خلاف الإمتنان على الأمة، وهذا الشرط متحقق في هذه الموارد، فرفع صحة البيع والحكم بالبطلان في بيع المكره ليس فيه خلاف الإمتنان على الأمة وإن لم يكن فيه إمتنان عليها، وكذا الكلام في رفع الحرمة والحد عن المضطر الى شرب الخمر ليس فيه خلاف الإمتنان على الأمة، فالشرط هو أن لا يكون في الرفع خلاف الإمتنان بالنسبة الى الأمة، وبذلك يمكن إدخال هذه الموارد في الحديث.

الثمرة على أساس قرينة الإمتنان

ذكر المحقق العراقي قده في محل الكلام بأنَّ قرينة الإمتنان - إذا تمت - لها ثمرة تظهر في أنَّ الحديث لا يشمل ما إذا حصل الإضطرار بسوء الإختيار وإنما يشمله إذا حصل بالإختيار كما في موارد الإضطرار المتعارفة، وأما إذا فعل العبد ما يوجب الإضطرار الى شرب الخمر متعمداً فاضطر الى شربه فهذا إضطرار بسوء إختياره ولا يشمله الحديث، فلا ترتفع الحرمة ولا الحد عنه، فنفرق بين نحوين من الإضطرار، وهذا تقييد حاصل بقرينة الإمتنان.

الإعتراض عليه:

إنَّ ما ذكره غير واضح ولذا إعترض عليه بأنه إذا فرغنا من أنَّ الحديث مسوق مساق الإمتنان فإنه لا يكون قرينة على عدم شمول الحديث لموارد الإضطرار بسوء الإختيار وذلك لوضوح أنّ رفع الحرمة والحد عن هذا المضطر فيه إمتنان عليه بلا فرق فيه بين الإضطرار بسوء الإختيار وبين الإضطرار بلا الإختيار، فقرينة الإمتنان لا تصلح لمنع شمول الحديث لموارد الإضطرار بسوء الإختيار، فكيف جُعلت قرينة على ذلك؟

وفيه: أنَّ الظاهر من عبارة المحقق العراقي قده هو أنَّ الإمتنان قرينة على إختصاص الرفع برفع الآثار التي يكون وضعها خلاف الإمتنان، فما لا يكون كذلك لا مجال للتمسك بالحديث لرفعه وإن فرض الإمتنان في رفعه، ومن الواضح أنَّ المضطر بسوء الإختيار وإن كان في رفع الآثار إمتنان عليه إلا أنَّ وضعها عليه ليس على خلاف الإمتنان فلا يشمله الرفع.

ولعل السر في الإختصاص الذي ذكره هو أنَّ الفعل في حالة الإضطرار إليه بسوء الإختيار لا يُعد إضطراراً عرفاً لأنَّ العرف يرى أنَّ لديه مندوحة فيُعد شارباً للخمر بإختياره عرفاً، ولذا يقال في من ألقى نفسه من شاهق أنه قتل نفسه، وتترتب عليه آثار ذلك وإن كان مضطراً في الأثناء، ومن هنا يمكن أن يقال إنَّ هذه الموارد خارجة عن الحديث موضوعاً فلا حاجة في إخراجها عن الحديث الى التمسك بقرينة الإمتنان وذلك باعتبار عدم صدق الإضطرار عرفاً، وهذا يعني أنَّ الذي يُفهم من الإضطرار الوارد في الحديث هو ما يقابل أصل الإختيار بمعنى أن لا يكون فيه إختيار أصلاً وهو الإضطرار لا بسوء الإختيار.

نعم قد يقال إنَّ هذا الكلام يصح في الإضطرار لكنه لا يصح في النسيان المذكور في كلام المحقق العراقي قده لوضوح أنه يصدق عرفاً على ما ينساه الإنسان أنه منسي وإن كان نسيانه بسوء الإختيار، فالعرف يُفرق بين النسيان وبين الإضطرار في المقام فهو ينفي الإضطرار دون النسيان، فما هو الوجه في عدم شمول الحديث لموارد النسيان بسوء الإختيار؟

الجواب: هناك وجه آخر لخروج موارد الإضطرار بسوء الإختيار عن الحديث ويمكن تطبيقه على موارد النسيان بسوء الإختيار، وحاصله:

إنَّ ما يصدر من المكلف قبل الإضطرار والنسيان صادر منه في حال الإختيار لا الإضطرار وفي حال الذكر لا النسيان، فلا يكون هذا الشخص داخلاً في الحديث، فإذا ألقى نفسه من شاهق فقد فعل حراماً لحرمة إلقاء النفس في التهلكة، وهو مختار في ذلك، فلا ترتفع آثار ذلك من العقوبة وغيرها بحديث الرفع لأنه خارج موضوعاً عن الحديث، ونفس الكلام يقال في النسيان فإذا فُرض وجوب المحافظة على التذكر وعدم نسيان الواجب لأهميته فالمكلف إذا ترك المحافظة فقد ترك واجباً وفعل حراماً وهو متذكر، وإن أدى ذلك الى النسيان، وتترتب الآثار على فعل الحرام لأنه فعله في حال التذكر فلا يشمله الحديث.