44/11/01
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع
تقدم بيان ما ذكره السيد الخوئي قده في بعض تقريراته من أنه يُعتبر في جريان الحديث أمران:
الأول أن يكون في الرفع إمتنان على العبد، في قبال ما إذا كان فيه خلاف الإمتنان كما في رفع صحة بيع المضطر.
الثاني أن يكون في الرفع إمتنان على الأمة، وهذا في قبال ما إذا كان جريان الحديث في حق شخص فيه إمتنان عليه ولكنه يستلزم عدم الإمتنان أو المشقة في حق شخص أخر فلا يجري أيضاً.
وهناك قرينتان يمكن أن يُستدل بهما على ما ذكره:
الأولى قرينة تعدي الرفع بـــ (عن) الذي يُفهم منه التخفيف عن الأمة.
الثانية إضافة الرفع الى الأمة (رفع عن أمتي) وهذا لسان يُفيد التحبب والتودد، فيكون قرينة على أنَّ هذا الرفع سنخ رفع يُتودد فيه الى الأمة، فلابد في أن يختص بالرفع الذي فيه نفع يعود الى الأمة.
وقلنا يمكن أن تكون القرينة الأولى دليلاً على الأمر الأول، وأن تكون القرينة الثانية دليلاً على الأمر الثاني، توضيح ذلك:
أما القرينة الأولى - وهي الرفع المتعدي بعن - فلا يُستفاد منها إلا التخفيف عن الشخص الذي يجري الرفع في حقه، لأنَّه رفعٌ لما فيه ثقل عليه، والمناسب لهذا الرفع أن يكون إنحلالياً بمعنى أنّ كل شخص يجري في حقه الحديث يكون في الرفع تخفيف عنه، وأما إذا فرضنا أنَّ الرفع فيه ثقل على الشخص فلا معنى لجريان الحديث لرفع ذلك الأثر، وعلى هذا الأساس نفرق بين بيع المضطر وبين بيع المكره فرفع الصحة في بيع المكره فيه تخفيف عنه فيجري فيه الحديث لنفي صحة البيع، وأما بيع المضطر فليس كذلك فإنَّ الحكم بفساد بيعه يوقعه في الحرج والضيق.
وأما القرينة الثانية فهي تلحظ الإضافة الى الأمة وهو لسان التحبب والتودد الى الأمة وهو يعني أنَّ الرفع يعود بالنفع على الأمة، وأما إذا لم يكن كذلك فلا معنى للتودد إليها بالرفع، وقد طُبقت هذه القرينة على ما إذا لزم من جريان الرفع في مورد وبلحاظ شخص خلاف الإمتنان على شخص آخر، كما لو أُكرِه شخص على ضرب زيد فجريان الحديث يعني رفع الآثار على الفعل المكره عليه كالحرمة، فالحديث يرفع هذه الحرمة لأنَ الفعل صدر عن إكراه، لكن رفعها عن المكره يستلزم إيقاع الضرر بالمضروب وهذا خلاف الإمتنان بالنسبة إليه، فقيل لا يجري الحديث في هذا المورد لأن المعتبر في جريانه هو أن يكون الرفع فيه إمتنان على الأمة وهذا غير حاصل في هذا المورد.
وكأنَّ القرينة الثانية تهدم الإطلاق في القرينة الأولى فإنَّ مقتضى الإطلاق في القرينة الأولى هو جريان الرفع سواءً لزم خلاف الامتنان - كالإضرار بالغير - أو لم يلزم، ولكن القرينة الثانية تهدم هذا الإطلاق وتقول إنه غير مراد لأنه يعتبر في جريان الحديث أن يكون هناك إمتنان على الأمة ولزوم خلاف الإمتنان على الشخص الآخر ينافي ذلك، فلابد من المنع منه، وهو معنى تقييد الإطلاق.
والحاصل المعتبر في جريان الحديث أمران:
الأول: أن يكون في جريانه تخفيف عن الشخص الذي يجري فيه الحديث.
الثاني: أن لا يكون في جريانه خلاف الإمتنان بالنسبة الى شخص آخر.
والإعتراض المتقدم بأنَّ ورود الحديث مورد الإمتنان لا شاهد عليه وأنَّ غايته هو وروده مورد التسهيل الشخصي لا النوعي - يكون اعتراضاً على القرينة الثانية، وتقريب ذلك:
إنَّ الإستدلال على القرينة الثانية يتوقف على حمل كلمة (أمتي) على العام المجموعي لا الإستغراقي، ولا وضوح في إرادة العموم المجموعي بل إرادته فيها مؤنة في مقام البيان، بخلاف العموم الإستغراقي فهو الأصل في مثل هذا التركيب، وأما الحمل على العموم الإستغراقي فلا يثبت به الإمتنان على الأمة لأنَّ تطبيق الحديث على كل فرد يكون مستقلاً عن تطبيقه على غيره، ويلحظ فيه الإمتنان بلحاظ هذا الفرد فقط وإن كان فيه خلاف الإمتنان على غيره، وأما الحمل على العموم المجموعي فلابد من عود الإمتنان والنفع على مجموع الأمة، وحينئذ يقال: إذا كان الإمتنان على شخص يستلزم خلاف الامتنان على شخص آخر فلا يجري الحديث.
والحاصل إنَّ القرينة الثانية متوقفة على حمل قوله (على أمتي) على العموم المجموعي، وأما إذا حُمل على العموم الاستغراقي فلا يتم ذلك، وحيث لا شاهد على الحمل على العموم المجموعي وأنه بحاجة الى مؤنة بخلاف الإستغراقي فلذا لا تتم القرينة الثانية.
نعم قد يُستدل على العموم المجموعي بقرينة الإمتنان فإنَّ الحديث مسوق مساق الإمتنان على الأمة، ولازمه أن يكون إجراء الحديث بحق شخص مشروطاً بأن لا يكون فيه خلاف الإمتنان بالنسبة الى شخص آخر، ولما كانت نسبة النبي - صلى الله عليه وآله - الى أفراد الأمة نسبة واحدة ناسب ذلك أن يكون الإمتنان عليهم بنسبة واحدة، وأما إذا كان الإمتنان على شخص يستلزم عدم الإمتنان على آخر فهذا يعني أنَّ نسبته إليهم ليست نسبة واحدة، وعليه لا يجري الحديث في حق شخص إذا لزم منه خلاف الإمتنان بالنسبة الى الأمة.
والملاحظة عليه: إنَّ ما قيل من أنَّ سياق الحديث هو سياق الإمتنان - وهو المعروف - يمكن التأمل فيه فإنَّ غاية ما يُفهم منه هو التخفيف والتسهيل، وهو نظير رفع الشارع وجوب الإعادة عن المكلف عند الشك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها، أو بعد تجاوز المحل، أو بعد خروج الوقت، الذي يُفهم منه من التسهيل والتخفيف فقط، وأما الإمتنان فهو شيء آخر وليس واضحاً، وذلك بإعتبار أنَّ الحديث لم يقل (رفعتُ عن أمتي) وإنما قال (رُفع عن أمتي) بصيغة المجهول، وهو يعني أنَّ الرافع هو المولى سبحانه وتعالى وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله مخبر عن ذلك، فكأنه قال: أخبركم بأنَّ الله سبحانه وتعالى رفع عنكم هذه الأمور ... وهذا اللسان ليس لسان الإمتنان وإن كان فيه تخفيف بلا إشكال.
وبعبارة أخرى: إنَّ الإمتنان إذا كان من النبي صلى الله عليه وآله على الأمة فهو يتوقف على أن يكون الرفع صادراً منه وهذا لا يُفهم من الحديث، وإن كان الإمتنان من الله سبحانه وتعالى فما صدر منه هو مجرد الرفع.