44/10/24
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع
كان الكلام في أنَّ حديث الرفع هل يشمل الأقسام الثلاثة المتقدمة فيرفع الآثار للعناوين المذكور فيه مطلقاً سواءً كانت تترتب على الفعل بعنوانه الأولي من دون أن يشترط فيه طرو أحد هذه العناوين ولا يشترط فيه عدم طروه أم لا؟
قلنا لا إشكال في عدم شمول حديث الرفع للقسم الثاني، وهو الآثار المترتبة على الفعل بشرط عدم طرو أحد هذه العناوين، وبعبارة أخرى إذا طرأت هذه العناوين إرتفع الحكم لإرتفاع موضوعه لأنَّ موضوعه هو عدم طروء واحد من هذه العناوين فإذا طرأ إرتفع الحكم لإرتفاع موضوعه من دون الحاجة الى حديث الرفع.
وأما القسم الأول فلا إشكال في شمول حديث الرفع له ومثاله شرب الخمر إضطراراً أو إكراهاً، فالحكم يترتب عليه ولكن ترتبه ليس مشروطاً بطرو واحد من هذه العناوين كما في القسم الثالث ولا مشروطاً بعدم طرو واحد منها كما في القسم الثاني، وهذا ما لا إشكال فيه.
وإنما الإشكال والكلام في القسم الثالث وهو الذي ترتب هذه الآثار والأحكام على الفعل بشرط طرو واحد من هذه العناوين، كوجوب سجدتي السهو المترتب على السهو في الصلاة، ووجوب الدية المترتب على القتل الخطأ.
ومعنى شمول الحديث للقسم الثالث هو أنَّ الحديث ينفي وجوب الدية في القتل الخطأ لأنَّ الحديث يرفع الخطأ فيرتفع الأثر الذي يترتب على هذه العنوان، لكن هذا لا يعني الإلتزام بعدم وجوب الدية في القتل الخطأ غاية الأمر هو أنَّ الدليل الخاص إذا دل على وجوب الدية يكون معارضاً لحديث الرفع بناءً على الشمول، وذلك لأنَّ حديث الرفع يرفع وجوب الدية والدليل الخاص يثبتها فيتعارضان، والتقديم يكون للدليل الخاص بالأخصية، والنتيجة العملية هي الإلتزام بوجوب الدية في القتل الخطأ.
وأما مع عدم الدليل الخاص على وجوب الدية وحصول الشك فيه فبناءً على الشمول يمكن الرجوع الى الحديث لنفي وجوب الدية، ولا تصل النوبة الى التمسك بالأصول العملية لنفيها، فما يترتب على الشمول أمران:
الأول: حصول التعارض بين حديث الرفع وبين الدليل الخاص مع فرض وجوده.
الثاني: إمكان التمسك بحديث الرفع عند الشك في وجوب الدية لعدم الدليل الخاص.
وأما معنى عدم الشمول للقسم الثالث فهو أولاً أنَّ الحديث لا يدل على نفي وجوب الدية في القتل الخطأ، فإذا دلَّ دليل على وجوب الدية فيكون العمل عليه بلا معارض.
وثانياً مع عدم الدليل على وجوب الدية والشك فيه ترتب هذا الأثر على القتل الخطأ نحتاج الى التمسك بالأصول العملية لنفي وجوبها.
الإستدلال على عدم الشمول
الوجه الأول: المعروف بين المحققين هو عدم شمول الحديث للقسم الثالث واختصاصه بالأول، وإستدل له بما أُشير إليه في الكفاية وحاصله هو عدم إمكان الجمع بين القسمين الأول والثاني، وبيانه:
إنَّ الدليل الدال على ترتب الأثر- كوجوب الدية على القتل الخطأ - فيه ظهور في أنَّ وجوب الدية من آثار الخطأ، بمعنى أنَّ عنوان (الخطأ) فيه مقتضي لثبوت هذا الحكم هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا قلنا بشمول الحديث للقسم الثالث فهو يعني أنَّ هذا العنوان نفسه فيه إقتضاء رفع الحكم، وهو محال لأنه يؤول الى إتحاد المقتضي والرافع، وهذا محذور ثبوتي، وحيث أنَّ الدليل الخاص دلَّ قطعاً على ترتب وجوب الدية على القتل الخطأ وفهمنا أنَّ عنوان (الخطأ) فيه ما يقتضي ترتب هذا الحكم فلا يمكن أن يكون هذا العنوان رافعاً لهذا الأثر، ومعنى شمول الحديث للقسم الثالث هو أنَّ عنوان (الخطأ) يكون رافعاً لذلك الأثر، وهذا هو معنى إتحاد المقتضي والرافع، وعلى هذا الأساس قالوا لا يمكن أن يشمل حديث الرفع القسم الثالث.
ومن الواضح أنَّ هذا الدليل أُخذ فيه الفراغ عن وجود دليل دال على ثبوت الأثر على عنوان (الخطأ)، فلابد من الإلتزام بعدم الشمول حذراً من هذا المحذور الثبوتي.
ولوحظ عليه: إنَّ غاية ما يثبت بهذا الدليل هو أنَّ القسم الثالث خارج عن حديث الرفع، ولكن الكلام في أنَّ هذا الخروج هل هو خروج تخصصي أم تخصيصي، وهذا الوجه كأنه يدعي أنَّ الخروج تخصصي، أي أنَّ الحديث لا يشمل القسم الثالث أصلاً، وذلك للمحذور الثبوتي المتقدم بيانه، والاعتراض يقول إنَّ ما ذُكر لا يثبت عدم الشمول للقسم الثالث وليكن الخروج بالتخصيص، وهو يعني الشمول غاية الأمر أنَّ الشمول للقسم الثالث له معارض وهو الدليل الخاص، فيوجب خروجه عن حديث الرفع، وهذا تخصيص لا يمنع من الإلتزام بالشمول بالنظر الى الحديث في حد نفسه، ولذا قلنا لو فرضنا عدم وجود دليل يدل على وجوب الدية في القتل الخطأ فنلتزم بشمول الحديث له وننفي الدية في القتل الخطأ.
نعم هناك شيء آخر وهو أنه لو فهمنا أنَّ عنوان (الخطأ) يقتضي ثبوت هذا الحكم من نفس حديث الرفع لا من الدليل الخاص، وذلك بأن يُستفاد من نفس كلمة (الرفع) الذي لا يكون إلا للأمر الثابت، فيكون الخطأ فيه إقتضاء ثبوت الحكم بدلالة حديث الرفع نفسه، وحينئذ نقول يلزم من شمول حديث الرفع للقسم الثالث إتحاد المقتضي مع الرافع وهو غير ممكن، وعليه لابد أن يكون الخروج تخصصي، أي أنَّ الحديث لا يمكن أن يكون شاملاً للقسم الثالث.
والحاصل: أنَّ إقتضاء هذه العناوين للحكم إما أن يثبت بنفس الحديث باعتبار التعبير بالرفع الظاهر في ثبوت المقتضي للحكم في هذه العناوين، وإما أن يثبت بدليل آخر كدليل ذلك الحكم والأثر مثل دليل وجوب الدية في القتل الخطأ، فعلى الأول يتم الدليل على عدم شمول الحديث للقسم الثالث واختصاصه بالقسم الأول لما عرفت من أنَّ الشمول يلزم منه أن يتحد المقتضي والرافع وهو محال، إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد رافعاً لما يقتضيه أو مقتضياً لما يرفعه، وحينئذٍ يكون خروج الآثار من القسم الثالث من حديث الرفع خروجاً تخصصياً فإذا دلَّ الدليل على ذلك الحكم والأثر أخذنا به لعدم المعارض لا من باب تقديمه على حديث الرفع بالأخصية، وأما إذا لم يدل عليه دليل وشككنا فيه فلا يصح التمسك بالحديث لنفيه بل يكون نفيه بالأصل.
وعلى الثاني لا مانع من كون الحديث شاملاً للقسم الثالث ودالاً على رفع الحكم فيه وإن كان لا يمكن الأخذ بذلك لوجود الدليل الدال على ثبوت الحكم وعدم إرتفاعه وهو أخص من الحديث فيقدم عليه بالأخصية.
وعليه إذا لم نلتزم بدلالة الحديث على إقتضاء هذه العناوين للحكم فلا يتم البرهان المذكور على عدم شمول الحديث للقسم الثالث.
أقول: هذا مجرد إشكال فني وإلا فمن الناحية العملية لابد من الإلتزام بوجوب سجدتي السهو ووجوب الدية إذا دلَّ الدليل عليهما ولا يصح التمسك بالحديث لرفعه سواءً كان خروجه من الحديث تخصصياً أو تخصيصياً، إذن كل الآثار والأحكام من القسم الثالث تثبت في حال طرو هذه العناوين إذا دلَّ الدليل على ثبوتها.
هذا كله هو الوجه الأول للإستدلال على ما ذهب إليه المشهور من عدم شمول الحديث للقسم الثالث.
الوجه الثاني: هو أن يقال إنَّ ظاهر الحديث هو أنَّ العناوين المذكورة فيه مأخوذة على نحو المعرفية والمُشيرية الى نفس الأفعال بعناوينها الأولية، فعنوان (ما اضطروا إليه، ما استكرهوا عليه، ما لا يطيقون...) يُشير الى الفعل بعنوانه الأولي، فإذا إضطر المكلف الى شرب الخمر كان عنوان (ما اضطروا إليه) مشيراً إلى الفعل بعنوان (شرب الخمر)، فكأن الحديث يرفع شرب الخمر الذي إضطر إليه المكلف ولا يرفع الإضطرار.
وبعبارة أخرى العناوين في حديث الرفع هي حيثيات تعليلية لرفع أثر الفعل - كالحرمة - الذي تحقق في ضمنه الاضطرار أو الإكراه، فالعنوان يكون حيثية تعليلية للحكم ولا يتوجه إليه الرفع، وهذا يعني أنَّ الرفع يتوجه الى الفعل الذي يضطر إليه المكلف، ولا معنى لرفع الفعل إلا رفع الأثر المترتب عليه بعنوانه الأولي، فالحديث يرفع الحرمة عن شرب الخمر، وفي مثال القتل الخطأ يرفع الأثر المترتب على القتل، وهذا يعني إختصاص الحديث بالقسم الأول، إي إختصاصه بخصوص الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأولي، فليس مأخوذاً فيه طرو واحد من هذه العناوين، ولا مأخوذاً فيه عدم ذلك، فلا يشمل القسم الثالث ويثبت ما ذهب إليه المشهور، غاية الأمر أنَّ النكتة في المقام نكتة إثباتية وليست ثبوتية كما في الوجه الأول.