الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع

إستدارك على قرينة السياق المتقدمة:

كان الكلام في قرينة السياق في أنَّ إسم الموصول في حديث الرفع هل يراد به الموضوع الخارجي أم يراد به التكليف، فقيل إنَّ مقتضى وحدة السياق أن يراد به الموضوع الخارجي لأنَّه المراد من معظم الفقرات، فلو قلنا أنَّ المراد منه في فقرة (ما لا يعلمون) هو التكليف لاختلت وحدة السياق.

وقلنا هناك إنَّ الذي يضر بوحدة السياق هو إختلاف المراد الإستعمالي لإسم الموصول في الفقرات التسعة وهو واحد فيها وليس مختلفاً وهو عبارة عن مفهوم الشيء الذي هو معناه الحقيقي ولا يصح أن يقال إنه إستعمل في غير ما وضع له مجازاً حتى يتعدد المراد الإستعمالي فيكون في فقرة (ما اضطروا إليه) الشيء بقيد الإضطرار، وفي فقرة (ما استكرهوا عليه) هو الشيء بقيد الإكراه ... وهكذا، وذلك لأنَّ القرينة على التقييد هي صلة الموصول وهي إنما توجب أن يكون المراد الجدي من إسم الموصول هو المقيد لا المراد الإستعمالي منه، ولذا إتفقوا على عدم التجوز في (أعتق رقبة مؤمنة) ولا في (الرجل) في قولك (أكرم الرجل العادل)، ولا في العام في قولك (أكرم العلماء إلا الفاسقين)، فاسم الموصول في محل الكلام إستعمل في مراد استعمالي واحد في جميع الفقرات ولا إختلال في قرينة السياق.

تتمة:

الطريق الثاني لإثبات وجود الملاك بالرغم من إرتفاع التكليف هو التمسك بكلمة (الرفع) وهو النفي بعد الوجود فلابد من إفتراض نحو وجود للحكم المرفوع، وهو الوجود الإقتضائي الملاكي ويكون هو المصحح لصدق الرفع في محل الكلام، بعد الفراغ عن أنَّ المرفوع ليس هو الوجود الحقيقي للحكم إذ لا وجود له في هذه الموارد من الأساس.

وأجيب عنه: بأنَّ المصحح لا ينحصر بافتراض الوجود الإقتضائي الملاكي للحكم، بل من الممكن تصحيح إستعمال الرفع في الحديث بقطع النظر عن ذلك، وذلك إما على أساس أنّ المرفوع هو الحكم عند الأمم السابقة، وأما أنَّ المرفوع هو الحكم الثابت بلحاظ أول الشريعة بأن يقال إنّ هذه الأحكام كانت ثابت في أول الشريعة ومع ثبوت الحرمة يصدق الرفع حقيقة، وإما بأنَّ المقصود من ثبوت الحكم هو ثبوته بلحاظ الأدلة، بمعنى وجود مطلقات تدل على ثبوت الحكم مطلقاً لولا الرفع، فرفع الشارع له يكون إستعمالاً حقيقياً لأن للمرفوع ثبوت بلحاظ إطلاق الأدلة، هذه ثلاثة وجوه.

ومن هنا يقال لا ينحصر تصحيح إستعمال الرفع في الحديث بافتراض أنَّ المرفوع هو الوجود الملاكي الإقتضائي للحكم حتى نستكشف بقاء الملاك ووجود المقتضي وبالتالي تصحيح وضوء المُكره.

المناقشة فيه: وقد يُناقش في هذا الجواب بأنّ مجموع الإحتمالات المصححة أربعة ولكن يمكن إقامة البرهان على نفي الثلاثة التي أبرزها المجيب فيتعين الإحتمال الأول وهو أنَّ الرفع على أساس الوجود الملاكي الإقتضائي للحكم، وأما استبعاد الإحتمالات الثلاثة فبأن يقال:

أما دعوى ثبوت الحكم في موارد الإضطرار والإكراه ونحوها في بداية الشريعة فغير محتمل أصلاً، وخصوصاً في المراتب الشديدة لهذه العناوين التي تنتهي الى عجز المكلف عن الفعل أو عن الإمتناع عنه، فهذا الإحتمال غير وارد وليس عقلائياً.

وكذا الكلام في دعوى ثبوت الحكم بلحاظ الشرائع السابقة، إذ لا نحتمل ثبوت الحكم في حق المضطر أو المكره خصوصاً في المراتب الشديدة من هذه العناوين التي توجب العجز عن الفعل أو عن الترك، بل العقل يتدخل لنفي الحكم في هذه المراتب الشديدة فكيف يكون ثابتاً!

نعم بعض الفقرات يمكن أن يكون رفعهما من مختصات هذه الأمة كفقرة (ما لا يعلمون) بمعنى أنَّ الأحكام كانت ثابتة في الأمم السابقة حتى في حال الجهل، ولكن ذلك لا يطَّرد في سائر الفقرات.

وأما الإحتمال الثالث - وهو أنَّ الثبوت بلحاظ إطلاقات الأحكام - فيمكن دفعه بوجهين:

الأول أنه يتوقف على إفتراض الإطلاق في أدلة الأحكام بنحو يشمل حالة الإكراه والإضطرار...، ولكن هذا لا يمكن فرضه على الأقل بالنسبة الى المراتب الشديدة من هذه العناوين، وذلك لوجود حكم عقلي يحكم بانتفائها في هذه المراتب، ومن الواضح أنَّ الحكم العقلي يشكل قرينة لُبية متصلة بدليل الحكم يمنع من إنعقاد إطلاقه، وبعبارة أوضح إنَّ الدليل وإن قال (الخمر حرام) وهو مطلق ولكن له مقيد لبي متصل وهو حكم العقل باستحالة ثبوت هذا الحكم للعاجز، فلا إطلاق في هذه الأدلة بحيث يشمل هذه العناوين، وعلى الأقل بمراتبها الشديدة.

الثاني: إنَّ الحديث ظاهر في أنه ناظر الى مقام الثبوت لا الى مقام الإثبات، فالرفع المستفاد منه هو الرفع في مقام الثبوت، وإلا يكون الرفع منوطاً بوجود الدليل على الحكم وهو خلاف ظاهر الحديث.

وعليه لا يمكن المصير إلى هذا الاحتمال.

ومع نفي الإحتمالات الثلاثة يتعين الإحتمال الأول لتصحيح إستعمال الرفع وهو أنَّ الحكم المرفوع له وجود ملاكي إقتضائي، وبالتالي يمكن القول بأنَّ ملاك الحكم موجود وإن إرتفع الحكم، فيمكن تصحيح وضوء المكره.

هذا ما يمكن أن يقال.

ولكن بالرغم من ذلك يبقى في النفس من هذه القضية شيء فإنَّ المصحح المذكور لم نُثبته بالدليل وإنما إنتهينا إليه بعد استبعاد المحتملات الأخرى في المقام، ولعل هناك وجه آخر لتصحيح إستعمال الرفع في الحديث من دون إفتراض الوجود الإقتضائي والملاكي للحكم.

الجهة الثالثة في فقه الحديث وهي في شمول الحديث الشريف للآثار المقيدة بتلك العناوين

هناك آثار وأحكام شرعية مقيدة بالعناوين الواردة في الحديث كما إذا قال الدليل (تجب الدية في القتل الخطأ) أو (تجب سجدتي السهو عند السهو في الصلاة)، فهذا حكم موضوعه مقيد بهذه العناوين، والكلام يقع في أنَّ الرفع هل يشمل هذه الأحكام المقيدة بواحدة من هذه العناوين أو لا يشملها، ومعنى الشمول هو أنَّ الحديث كما يرفع الحكم إذا صدق أحد هذه العناوين فكذلك يرفع وجوب الدية عند القتل الخطأ، أو يرفع وجوب سجدتي السهو عند حصوله في مورد معين.

والأحكام والآثار المترتبة على الشيء يمكن تصورها بأنحاء ثلاثة:

النحو الأول أن نفترض ترتب الحكم أو الأثر على الشيء بعنوانه الأولي، فترتب الأثر على الشيء ليس مقيداً بوجود أحد هذه العناوين ولا مقيداً بعدمها، كما تقدم في مثال حرمة شرب الخمر، فإنَّ الحرمة ثابتة له بعنوانه الأولي وليست ثابتة بشرط واحد من هذه العناوين ولا بشرط عدم وجود واحد منها.

النحو الثاني أن تكون الأحكام والآثار ثابتة للشيء ولكن مقيداً بعدم طرو واحد من هذه العناوين، من قبيل وجوب الكفارة المقيد بأن لا يصدر الإفطار عن خطأ أو نسيان، أي مترتبة على الإفطار العمدي، وهذا هو معنى أن يكون مقيداً بعدم واحد من هذه العناوين.

النحو الثالث أن يكون الأثر مترتب مترتباً على الفعل ولكنه مقيداً بواحد من هذه العناوين كما في مثال الدية التي لا تترتب على القتل إلا إذا كان مقيداً بالخطأ، وأما إذا كان عمداً فالأصل فيه ترتب القصاص.

وعليه نقول: لا إشكال ولا خلاف ولا كلام في شمول الحديث للنحو الأول بل يعتبر هو القدر المتيقن من الحديث، فلا إشكال في أنّ حديث الرفع يرفع هذه الأحكام المترتبة على الفعل بعنوانه الأولي.

كما أنه لا إشكال ولا الخلاف في عدم شمول الحديث للنحو الثاني، أي ترتب الآثار على الفعل مقيداً بعدم واحد من هذه العناوين، فترتب وجوب الكفارة على الإفطار مشروط بأن لا يقع خطأً أو نسياناً وإنما تترتب إذا وقع عن عمد، وذلك لأنَّ طرو أحد هذه العناوين يؤدي الى إرتفاع الموضوع وإنتفاء الحكم قهراً، فلو أفطر خطأً إرتفع الموضوع - وهو الإفطار لا عن خطأ - ويرتفع بذلك الحكم قهراً، ولا داعي حينئذٍ لحديث الرفع.

وبعبارة أخرى السؤال عن أنَّ حديث الرفع هل يرفع الحكم أو لا يرفعه لا يكون إلا بعد فرض تحقق واحد من هذه العناوين، وتحقق واحد منها في هذا القسم ملازم لإرتفاع الحكم بارتفاع موضوعه، فلا معنى للحديث عن شمول الحديث له أو عدم شموله.

وإنما الكلام والإشكال في النحو الثالث أي في الآثار المترتبة على الشيء بشرط طرو واحد من هذه العناوين، ومثاله الدية التي تجب عندما يكون القتل عن خطأ، والكلام في أنه مشمول بهذا الحديث أو لا، فمثلاً إذا سها عن صلاته أو قتل خطأً فهل يجري الحديث ويقتضي نفي وجوب سجدتي السهو ونفي وجوب الدية؟ بحيث لو دلَّ دليل على وجوبهما كان الحديث معارضاً له؟ ولو قلنا بتقدم الدليل الدال على الوجوب على حديث الرفع على أساس الأخصية.