44/10/22
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع
تلخيص ما تقدم:
كان الكلام في الوجه المصحح لإستعمال كلمة الرفع في الحديث، حيث إستعمل لنفي الآثار المترتبة على العناوين المذكورة فيه (الإضطرار، الإكراه، الخطأ...) مع أننا نعلم بأنَّ نفي هذه الأحكام ليس رفعاً لأنَّ الشارع لا ينفيها بعد فرض وجودها وإنما هي منتفية من الأساس، فلا ثبوت لها حتى يصدق عليها الرفع، والرفع كما مر هو رفع الشيء بعد وجوده ووجود مقتضيه، بينما الحرمة المترتبة على الفعل المضطر إليه غير مجعولة من الأساس.
وأحد الحلول المطروحة هو أن يكون المقصود من الرفع هو رفع الحكم بوجوده الإقتضائي الملاكي، لأنَّ الحكم له وجودان وجود خارجي حقيقي ووجود إقتضائي بوجود مقتضيه، والثاني هو الذي يرفع، وهذا نفي للحكم بوجوده الإقتضائي ويصدق عليه الرفع حقيقة، لأنه نفي له بعد وجوده ولكن بوجوده الإقتضائي.
طريق إحراز بقاء الملاك
وإثبات الوجود الإقتضائي للحكم والذي على أساسه يمكن تصحيح وضوء المكره إذا جاء به محملاً للضرر وأنَّ المرتفع هو الوجوب فقط دون الملاك فبطريقين كما مرت الإشارة إليه:
الأول التمسك بقرينة الإمتنان، حيث يدعى أنه لا يصدق الإمتنان على المكلف برفع الوجوب إلا مع بقاء الملاك، وأما رفع الوجوب لعدم ملاكه ومقتضيه فليس فيه إمتنان، فلابد من إفتراض أنَّ هذا الرفع مقترن ببقاء الملاك ليوافق نكتة الإمتنان المستفادة من مساق الحديث.
وجوابه: إنَّ هذا الوجه يصدق في الأوامر العرفية الصادرة من الآمرين الى مواليهم لأنَّ المصلحة فيها تعود على الآمرين، فرفع الحكم مع بقاء الملاك فيه إمتنان على العبد، كما أنَّ رفع الحكم لعدم الملاك ليس فيه إمتنان لأن إرتفاعه يكون قهرياً، أما الى بالنسبة الى المولى الحقيقي الذي تعود المصالح والمفاسد في أحكامه الى العبد نفسه فلا معنى للامتنان عند رفع الحكم مع بقاء الملاك، بل فيه تفويت للمصلحة الملزمة التي تعود على العبد هذا من جهة.
ومن جهة أخرى إنَّ رفع الحكم مع عدم الملاك يمكن أن نتصور فيه الإمتنان كما إذا فرضنا وجود مصلحة تعود الى العبد عند رفع الحكم حتى مع فرض عدم وجود الملاك، ففي مثال وضوء المكره إذا إفترضنا أنه خالٍ من الملاك فلا يمكن القول أنَّ ارتفاع الحكم عن العبد ليس فيه إمتنان ويعلل ذلك بأن إرتفاع الحكم عند إرتفاع الملاك يكون قهرياً لأنَّ الملاك بمثابة التي يرتفع المعلول بارتفاعها قهراً، هذا غير صحيح، بل يمكن أن نفترض أنَّ نفس رفع الحكم قد تكون فيه مصلحة تعود الى العبد نفسه كما لو فرضنا إنَّ إنتفاء الحكم يدفع عنه الضرر المتوعد به من قبل المُكرِه.
وعليه نقول: لا وضوح في كِلا طرفي القضية، فلا يمكن القول أنَّ إرتفاع الحكم مع بقاء الملاك فيه إمتنان لأنه في الأوامر الشرعية غير واضح، كما لا يمكن القول إنَّ إرتفاع الحكم مع عدم وجود ملاك ليس فيه إمتنان مطلقاً.
والحاصل: فبعد الفراغ من كون الحديث وارداً مورد الإمتنان، وأنَّ إرتفاع الحكم في الأوامر الشرعية مع وجود الملاك ليس فيه إمتنان بل فيه تفويت للمصلحة على العبد، فمن هنا يقال لابد أن نفترض بأنَّ الإمتنان يتحقق برفع نفس الحكم وإن فوّت على العبد المصلحة الملزمة، ولكن هناك مصلحة في نفس رفع التكليف تعود على العبد نفسه ويُتدارك بها ما فات من المصلحة برفع الحكم، وبذلك يصدق الإمتنان.
ولكن هذا الجواب غير واضح فإنَّ هذا لا يمكن تصوره في رفع الحكم مع إرتفاع ملاكه، وكذا وجود مصلحة في الرفع في هذه الحالة، فإنه عند إرتفاع الملاك والمصلحة يرتفع الحكم قهراً فلا وجود له فكيف تكون في رفعه مصلحة وامتنان على العبد؟
والحاصل إذا سلّمنا الإمتنان في الحديث - كما هو الظاهر - وأنه في الرفع فهو قرينة على وجود المقتضي للحكم وتحقق ملاكه حتى يكون رفعه إمتنانياً ولو باعتبار وجود مصلحة في نفس الرفع أولى من مصلحة الحكم الفائتة بالرفع وإلا فلا يتحقق الإمتنان.
هذا كله في الطريق الأول لإثبات الملاك في الفعل بعد إرتفاع حكمه بحديث الرفع.
الطريق الثاني: إستفادة ذلك من نفس كلمة الرفع، وذلك باعتبار أنَّ الرفع يستعمل في نفي الشيء بعد وجوده، فيقال لابد أن نفترض أنَّ المرفوع في الحديث له نحو من الوجود، وليس هذا النحو إلا الوجود الملاكي الإقتضائي، بعد الفراغ عن عدم الوجود الحقيقي للحكم في هذه الموارد، ومن هنا نستكشف وجود الملاك في هذه الموارد.
وأجيب عنه: بأنَّ تصحيح إستعمال الرفع في محل الكلام ليس منحصراً بإفتراض الوجود الملاكي الإقتضائي للحكم، وإنما هناك وجوه أخرى يمكن ذكرها لتصحيح إستعمال الرفع، منها:
أولاً ما أشرنا إليه من أنَّ هذا الإستعمال ناظر إما الى بداية الشريعة وإما الى ما كان ثابتاً في الأمم السابقة، فالشارع يرفع الحرمة التي كانت موجودة بلحاظ بداية الشريعة أو كانت ثابتة عند الأمم السابقة، فيصدق نفيها الآن حقيقة.
وثانياً أن يقال إنه يمكن تصحيح إستعمال الرفع ولكن في مقام الإثبات بمعنى أنَّ الحرمة لها وجود إثباتي بمقتضى إطلاقات الأدلة، فأدلة حرمة شرب الخمر مثلاً تقول (شرب الخمر حرام مطلقاً) أي سواءً إضطر إليه المكلف أو لا، فالحرمة ثباتة في مورد الإضطرار بإطلاق الدليل، والشارع يرفع هذه الحرمة في مورد الإضطرار، وهذا رفع بعد الوجود ولكنه بلحاظ مقام الإثبات.
وبناءً عليه لا يمكن تعيين إستعمال الرفع في الحديث وأنه باعتبار الوجود الملاكي الإقتضائي للحكم، ومن ثم إستفادة بقاء الملاك بالرغم من إرتفاع الحكم، وبالتالي تصحيح وضوء المكلف المكره على تركه.
والملاحظة على ذلك:
أما قيل من أنَّ الرفع بلحاظ بداية الشريعة بمعنى أنَّ الحكم كان ثابتاً في أول الشريعة حتى للفعل الذي يضطر إليه المكلف فهو غير صحيح، وذلك باعتبار أننا لا نحتمل ثبوت الحرمة للمضطر في أول الشريعة فإنَّ الحكم إذا كان له إرتفاع للاضطرار فيرتفع في أي وقت من الأوقات ولا نتصور ثبوته في موارد الإضطرار والإكراه حتى يقال إنّ الحرمة كانت ثابتة ثم رفعها الشارع!
هذا مضافاً الى أنَّ حديث الرفع ظاهره الرفع بلحاظ أصل الشريعة، فهذا الإحتمال غير موجود وليس عليه أي قرينة من داخل الحديث أو خارجه، فهذا الإحتمال مستبعد.
وأما إفتراض أنَّ هذه الأحكام كانت ثابتة بلحاظ الشرائع السابقة فغير واضح أيضاً فإنَّ كل عنوان من العناوين المذكورة له مراتب فالاضطرار والإكراه وعدم الطاقة... كل منها له مراتب، ولا يمكن أن نتصور أنَّ الحكم في المراتب الشديدة منها على الأقل كان ثابتاً بلحاظ الأمم السابقة، مضافاً الى أنَّ إنتفاء هذه الأحكام لعله يكون إنتفاءً عقلياً فكيف يمكن إفتراض ثبوته بالنسبة الى الشرائع السابقة؟!