الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة - فقه حديث الرفع

الكلام في تصحيح إستعمال كلمة الرفع في الحديث وذلك لأنَ المرفوع هو الحرمة ونحوها وهي ليست ثابتة حدوثاً أصلاً، وليس المنع منها في المرحلة البقاء، فالمناسب هو إستعمال كلمة الدفع كما قيل، وقلنا قد يقال إنَّ المصحح هو ثبوت هذه الآثار في الشرائع السابقة فيكون المنع في مرحلة البقاء فيصدق الرفع، هذا هو الوجه الأول.

الوجه الثاني - وهو المهم - أن يقال بأنَّ المصحح هو الوجود الإقتضائي لهذه الآثار، بمعنى أنَّ المقتضي للحرمة موجود في هذه الموارد والحديث يرفع هذا الحكم الموجود وجوداً إقتضائياً، وهذا ثبوت للحكم غاية الأمر أنه ليس في عالم الخارج والحقيقية وإنما في عالم الإقتضاء، وهذا رفع لا دفع.

وعلى هذا الأساس إدعي إمكان تصحيح العمل إذا جاء به المكلف في حالة الإكراه، مثلاً لو فرضنا أنّ المكلّف أُكره على ترك الوضوء لكنه جاء به متحملاً للضرر المتوَعَّد به فمن الواضح أنَّ هذا الوضوء لم يتعلق به الوجوب للاضطرار فكيف يمكن تصحيح الوضوء إذا جاء به المكلف في حال الإكراه؟

قيل: إنَّ الوجوب وإن إرتفع في حال الإكراه لكن الملاك موجود في هذا الوضوء، لأنَّ ارتفاع الحكم تارة يكون لعدم الملاك وأخرى مع وجود الملاك كما في حال الإكراه والإضطرار، فيمكن تصحيح الوضوء بالرغم من عدم تعلق الأمر الشرعي به على أساس وجود الملاك فيه، فالحكم له وجود في عالم الإقتضاء ويمكن على أساسه تصحيح الوضوء.

وفي مقابل ذلك قيل: لا يمكن معرفة وجود الملاك في الفعل إلا بتعلق الأمر الشرعي به، وهو الطريق الوحيد لذلك، وهذا قضاءً لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، وأما إذا إرتفع الحكم الشرعي لأي سبب كان فلا طريق لإحراز وجود الملاك في الفعل، فكيف يُحرز وجود الملاك في الفعل مع إرتفاع الحكم الشرعي عنه بإعتبار الإضطرار؟

قالوا: يمكن إحراز بقاء الملاك بالرغم من إرتفاع الحكم الشرعي وبالتالي إمكان تصحيح الوضوء وذلك بطريقين:

الطريق الأول التمسك بقرينة الإمتنان في حديث الرفع، قالوا إنَّ حديث الرفع مسوق مساق الإمتنان، فنتمسك بذلك لإثبات بقاء الملاك في هذا المورد وذلك باعتبار أنَّ الإمتنان إنما يتحقق برفع الحكم مع وجود مقتضيه، وأما رفعه لعدم وجود مقتضيه فليس فيه إمتنان، وإنما هو إرتفاع قهري للحكم بعد إرتفاع علته وهو الملاك، بينما الحديث يثبت الإمتنان فنستكشف أنَّ رفع الحكم في موارد الإكراه والإضطرار هو رفع مع بقاء مقتضي الحكم، وبهذه القرينة يمكن إثبات بقاء الملاك في الفعل الذي أكره عليه المكلف إذا تحمل الضرر وجاء به، هذا كله بناءً على أنَّ صحة الفعل لا تتوقف على تعلق الأمر به بل يكفي فيها إحراز وجود الملاك.

والملاحظة عليه: إنَّ هذا الكلام إنما يصح إذا كان الملحوظ في الأوامر الصادرة وملاكاتها هو المصالح الراجعة الى نفس المشرع والآمر كما هو المتعارف في الأوامر العرفية، فيقال إذا كانت هناك مصلحة راجعة الى الآمر ورفع الحكم مع وجود هذه المصلحة كان فيه إمتنان على العبد لرفعه مشقة التكليف عنه، وأما إذا كانت المصلحة راجعة الى العبد لا الى نفس الآمر كما هو الحال في الأوامر الشرعية فلا معنى لتحقق الامتنان في فرض رفع التكليف مع وجود الملاك وذلك لتفويت المصلحة الراجعة الى العبد، ومثال ذلك في الأوامر العرفية فإذا فرضنا أنَّ الأب أمر إبنه بالسفر فتارة تكون المصلحة راجعة الى الأب نفسه، وأخرى تكون راجعة الى الإبن، وعلى الأول يمكن القول أنَّ رفع وجوب السفر عن الإبن يصدق عليه الإمتنان، وأما على الثاني فرفع التكليف عنه فيه تفويت للمصلحة الراجعة الى الإبن نفسه وليس فيه إمتنان.

والحاصل إنَّ تحقق الإمتنان في رفع الشارع الحكم مع وجود ملاكه ومصلحته غير صحيح، وإنما يصح في الأوامر العرفية التي تلحظ فيها المصالح بالنسبة الى الآمرين أنفسهم، وعليه لابد أن يُراد بالامتنان في الحديث الإمتنان المتحقق بنفس رفع الحكم باعتبار أنَّ هذا الرفع يحقق المصلحة للعباد تكون أقوى من المصالح الفائتة عليهم برفع التكليف.

والحاصل إنَّ إفتراض تحقق الإمتنان برفع الحكم مع وجود ملاكه ومقتضيه الراجع الى العباد وعدم تحققه برفع الحكم لعدم وجود ملاكه حتى يكون الامتنان في الحديث قرينة على الأول - أي وجود الملاك - فيثبت بقاء الملاك في الفعل وبالتالي يحكم بتصحيح الوضوء غير صحيح، أما أولاً فلأنَّ ما ذُكر إنما يصح من المولى العرفي فإنه يمن على عبده إذا رفع عنه التكليف بالرغم من أنه يحقق المصلحة والنفع له، فإذا رفع التكليف مع بقاء المصلحة والملاك فيكون فيه إمتنان، وأما المولى الحقيقي فإنَّ تكاليفه إنما هي لمصالح تعود الى العبد نفسه فإذا رفع التكليف مع بقاء المصلحة والملاك لا يكون في ذلك إمتناناً على العبد بل يكون قد فوّت عليه المصلحة الملزمة العائدة إليه.

وثانياً إنَّ ما ذكر من أنَّ رفع الحكم لعدم ملاكه ليس فيه إمتنان غير صحيح أيضاً، إذ يمكن فرض تحقق الإمتنان بنفس رفع التكليف إذا كانت المصلحة الراجعة الى العبد أقوى أو مساوية للمصلحة الفائتة برفع التكليف.