44/10/17
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة - فقه حديث الرفع
تتمة بيان الثمرة بين الاحتمالين الثاني والثالث:
قالوا إنَّ الثمرة على الإحتمال الثاني هي إمكان إثبات أحكام وآثار نقيض الفعل المضطر إليه، مضافاً الى نفي أحكام الفعل المضطر إليه، بخلافه على الإحتمال الثالث الذي ينفي آثار الفعل المضطر إليه فقط من دون أن يثبت آثار نقيضه، فلو إضطر الى شرب الخمر مثلاً فعلى الإحتمال الثاني كما ينفي الحديث الآثار والأحكام المترتبة على شرب الخمر كالحرمة والحد فكذلك يثبت آثار نقيض شرب الخمر أي يثبت آثار عدم شرب الخمر، فإذا فرضنا وجود أثر يترتب على عدم الشرب كجواز الإئتمام أمكن إثباته على الإحتمال الثاني، وأما على الإحتمال الثالث فلا يمكن ذلك، والسر فيه هو أنَّ الإحتمال الثاني يدل على رفع تشريعي تعبدي للوجودات الحقيقية لهذه العناوين، ومعنى الرفع التشريعي هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم، فمعنى (لا ربا بين الوالد وولده) هو أنَّ المعاملة الربوية بينهما مُنزَّلة مَنزِلة العدم، فهذا رفع تشريعي للوجود الحقيقي، فإذا صار الشيء معدوماً بنظر الشارع ترتبت عليه آثار المعدوم، فشرب الخمر اضطراراً يكون بمنزلة عدم الشرب، فيثبت الأثر المترتب على عدم الشرب، وهو جواز الإئتمام في المثال.
وأما على الإحتمال الثالث الذي يقول إنَّ الرفع حقيقي للوجودات التشريعية لهذه العناوين وهو يعني أنَّ هذه العناوين لم تقع موضوعاً لأثر شرعي في عالم التشريع، وهذا لا يُستفاد منه أكثر من نفي الأحكام والآثار التي ترتبت على الفعل، وأما إثبات الآثار المترتبة على ثبوت نقيضه فغير ممكن على هذا الإحتمال.
وقد طُبقت هذه الثمرة على الفرع الفقهي المتقدم وهو ما إذا إضطر الى ترك الجزء كالسورة في الصلاة، وهنا لا إشكال في عدم وجوب الصلاة التامة عليه بما فيها الجزء المضطر الى تركه، ولا يحرم عليه تركه لمكان الإضطرار، وسر فيه واضح وهو أنَّ حديث الرفع يرفعها، فالسورة يجب الإتيان بها في حال الإختيار وفي حال الإضطرار يرتفع هذا الوجوب، وترك السورة أثره الشرعي هو الحرمة في حال الإختيار، وأما مع الإضطرار فالحرمة مرتفعة بالحديث، لكن الكلام في وجوب الباقي بنحو إذا جاء به وقع صحيحاً، وهنا يقال إنه بناءً على الإحتمال الثاني الذي يستبطن تنزيل المضطر إليه منزلة نقيضه أو إعتباره مرتفعاً يثبت وجوب الباقي وصحته إذا جاء به، لنفس ما تقدم في مثال شرب المضطر الخمر لكن مع تطبيق ذلك على الترك لا الفعل، فكما أنه إذا إضطر الى شرب الخمر أمكن إثبات جواز الإئتمام بناءً على الإحتمال الثاني لأنَّ حديث الرفع ينزل الشرب المضطر إليه منزلة عدمه أو يعتبره مرتفعاً ومعدوماً وهو تعبد بعدم الشرب فتترتب الآثار على العدم، وكذلك هنا إذا إضطر الى ترك السورة في الصلاة فإنَّ الحديث بناءً على الإحتمال الثاني ينزل هذا الترك المضطر إليه منزلة الوجود ويعتبر العدم مرتفعاً فتكون الصلاة الفاقدة للسورة إضطراراً واجدة لها تعبداً وتنزيلاً فيجب عليه الإتيان بباقي الأجزاء وتصح منه على القاعدة بلا حاجة الى دليل خاص، وأما بناءً على الإحتمال الثالث فلا إذ لا تنزيل فيه وإنما يعني الرفع الحقيقي للوجود التشريعي لهذه العناوين وهو يعني أنها ليست موضوعاً لحكم شرعي في عالم التشريع، في قبال ما إذا صدر الفعل عن إختيار فيكون له وجود تشريعي لأنه وقع موضوعاً لحكم شرعي، وأما إذا لم يكن له وجود تشريعي بحسب هذا الإحتمال فهو يعني عدم ترتب الآثار والأحكام عليه، وهذا يعني نفي الآثار المترتبة على الفعل من دون أن يتعرض الى إثبات الآثار والأحكام المترتبة على نقيضه، فيمكن أن يقال في محل الكلام إنَّ المضطر لترك السورة لا تترتب عليه الحرمة وغيرها من الآثار إن وجدت من دون إثبات أحكام وآثار نقيض ترك السورة بحسب الإحتمال الثالث، فكل ما يثبت هو عدم حرمة ترك السورة، وأما وجوب والباقي وصحته إذا جاء به فلا يمكن إثباته على هذا الإحتمال.
وفي قبال ذلك قد يدعى إنَّ الوجوب الضمني للسورة - وكذا الكلام في جزئيتها أو مبطلية تركها كحكم وضعي - يرتفع بالإضطرار فلا يبقى لها وجوب ضمني، وحينئذٍ يجب الإتيان بالباقي ويصح منه إذا جاء به، فالسقوط إنما يكون بالإضطرار وهو مضطر الى ترك السورة فقط، وأما الباقي فهو يدعوه الى الإتيان به فيجب عليه ويصح منه.
والجواب إنَّ هذه الدعوى فيها مغالطة وذلك باعتبار إنَّ الوجوب الضمني والجزئية والمبطلية أحكام وضعية منتزعة وتابعة للأمر المتعلق بالمركب التام، وبه يثبت وجوب ضمني لكل جزء في ضمن هذا المركب، وهذا الوجوب الضمني يسقط بالإضطرار، فلابد أن يسقط معه الوجوب المتعلق بالمركب التام، ولا يعقل بقاؤه، وإذا سقط الأمر بالمركب التام سقطت جميع الوجوبات الضمنية لباقي الأجزاء لتفرعها على الأمر بالمركب التام، فلا دليل على وجوب الإتيان بالباقي، فهذه الدعوى غير صحيحة.
ومن هنا يظهر أنَّ الثمرة بين الاحتمالين يمكن أن تظهر في هذا الفرع الفقهي أي ترك الجزء إضطراراً.
هذا مع الإلتفات الى أنَّ ظهور هذه الثمرة مبني على شمول الحديث للأمور العدمية، إذ هناك كلام في أنَّ حديث الرفع هل يختص برفع الأمور الوجودية أم يشمل الأمور العدمية، وما تقدم مبني على الشمول وهو الصحيح.
هذا كله في المقام الأول في بيان الثمرة بين الإحتمالات الثلاثة.
المقام الثاني في تعيين ما هو الصحيح من هذه الإحتمالات:
بداية نستبعد الإحتمال الأول لأنه يفترض التقدير والأصل عدم التقدير إلا مع القرينة، والرفع أُسند في الحديث الى الإسم الموصول (ما) فالقول بأنه أُسند الى مقدر خلاف الظاهر، كما أنَّ الأصل هو التطابق بين عالم الثبوت وعالم الإثبات فلو أراد المتكلم إسناد الرفع الى المؤاخذة في عالم الثبوت لأبرزه في عالم الإثبات وأسنده الى المؤاخذة ويكون كلامه في عالم الإثبات مطابقاً لعالم الثبوت، بينما الإحتمال الثاني والثالث لا تقدير فيهما والرفع أسند فيهما الى (ما) لكن الرفع تارة يكون عنائي تشريعي للوجودات الحقيقية، وأخرى يكون الرفع حقيقياً ولكن للوجودات التشريعية لهذه العناوين، وعلى الاحتمالين لا تقدير في الكلام، فالأصل يقتضي استبعاد الإحتمال الأول، والأمر يدور بين الثاني والثالث.
وقد يقال في مقابل ذلك إنَّ ذلك غير واضح لأنَّ لدينا أصل آخر وهو أصالة الظهور، والظاهر هو إسناد الرفع الى (ما اضطروا إليه) والى باقي الفقرات ودعوى أنه رفع عنائي مسامحي خلاف الظاهر، وكذلك حمل العناوين المذكورة على أنَّ المقصود بها الوجودات التشريعية لها فيه عناية، والدليل ظاهر في أنَّ الرفع حقيقي وللوجودات الحقيقية لهذه العناوين، ففي الجميع مخالفة للظاهر فلماذا يُرجح الإحتمال الثاني والثالث ويُستبعد الإحتمال الأول.