الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ فقه حديث الرفع

كان الكلام في فقه حديث الرفع، والكلام فيه يقع في جهات:

الجهة الأولى في تصحيح نسبة الرفع الى معظم الفقرات، حيث إنَّ المراد في معظمها هو الموضوع الخارجي وحيث نعلم أنه لا يرتفع حقيقة فنسبة الرفع إليه تحتاج الى تصحيح، وذكرنا إحتمالات ثلاثة:

الأول إنَّ المرفوع ليس هذه الأمور وإنما هو شيء مقدر، ثم إختلفوا في المقدر هل المؤاخذة أو أظهر الآثار أو جميع الآثار.

الثاني إنَّ الرفع منسوب الى هذه الأمور ولكن الرفع ليس حقيقياً وإنما هو رفع إعتباري تعبدي فالعناية تكون في الرفع، من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده).

الثالث إنَّ الرفع حقيقي والعناية في المرفوع، فالمرفوع ليس هو الوجود الحقيقي الخارجي لهذه الأمور وإنما هو الوجود التشريعي لها، الذي يعني أنه لم يقع موضوعاً لحكم شرعي.

ثم الكلام يقع في أمرين:

الأول في بيان الثمرة بين هذه الإحتمالات.

الثاني في بيان الصحيح من هذه الإحتمالات.

أما الأول فقد تقدم أنه بناءً على الإحتمال الأول - التقدير - يكون الحديث مجملاً من ناحية تحديد المقدر.

فإن قيل: يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات أنَّ المقدر هو جميع الآثار.

قلنا: إنَّ مقدمات الحكمة إنما تجري عند الشك في إعتبار قيد زائد بعد تعيُّن المفهوم والمراد منه فيمكن نفيه بالإطلاق، وأما تعيين المفهوم نفسه فلا تساهم مقدمات الحكمة في تعيينه، وعليه لا يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات أنَّ المقدر هو جميع الآثار وبالتالي نفي الإجمال.

هذا كله بناءً على عدم إستظهار أحد هذه المحتملات وأما معه فلا يكون الدليل مجملاً.

هذا على الإحتمال الأول، وأما على الاحتمالين الثاني والثالث فلا إجمال في الحديث، أما على الإحتمال الثاني القائل بأنَّ العناية في الرفع بمعنى أنه يكون رفعاً تشريعياً للوجود الحقيقي لهذه الأمور وهو يعني رفع جميع الآثار فلا إجمال.

وكذا الكلام على الإحتمال الثالث القائل أنَّ العناية بالمرفوع لا بالرفع، فالرفع حقيقي لوجود هذه الأمور في عالم التشريع، وهو يقتضي عدم ترتب أي أثر فلا يكون الحديث مجملاً أيضاً.

ثمرة أخرى:

ثم ذكروا ثمرة بين الاحتمالين الثاني والثالث، وهو بحث مهم تترتب عليه ثمرات علمية، قالوا إنَّ هذه الثمرة تظهر في موردين نتعرض لأحدهما:

قالوا بناءً على الإحتمال الثاني - أنَّ العناية بالرفع - تثبت آثار وأحكام نقيض المرفوع المضطر اليه، وأما بناءً على الإحتمال الثالث - أنَّ العناية بالمرفوع - فلا يثبت إلا آثار وأحكام وجود المضطر إليه دون آثار وأحكام نقيضه، وتنعكس هذه الثمرة فقهياً على ما إذا إضطر المكلف الى ترك الجزء أو الشرط أو أكره على ذلك، توضيح ذلك:

الكلام وقع في أنَّ حديث الرفع هل يرفع آثار وأحكام متعلق الإضطرار فقط كما إذا إضطر الى شرب الخمر فيرفع الحديث آثار ما إضطر إليه فقط كالحرمة والحد، أم يرفع ذلك ويثبت آثار وأحكام نقيضه؟

ومثال ذلك إذا فرضنا أنَّ جواز الإئتمام موضوعه العادل الذي لا يشرب الخمر، فإذا وجدنا عادلاً يشرب الخمر مضطراً أو مكرهاً فهل يثبت بالحديث جواز الإتمام به أو الثابت هو رفع الآثار المترتبة على الفعل فقط فترتفع الحرمة والحد ولا يثبت جواز الإئتمام الذي هو أثر لنقيض ما إضطر إليه؟

وبعبارة أوضح حديث الرفع برفعه آثار ما إضطر إليه المكلف هل يقول لنا إنَّ هذا المضطر لم يشرب الخمر تعبداً، فيكون ذلك كافياً في ترتيب الأثر وهو جواز الإئتمام؟

الثمرة تقول: بناءً على الإحتمال الثاني - العناية بالرفع - كما تنتفي آثار المضطر إليه - كالحرمة والحد - فكذلك يثبت أثر نقيض المضطر إليه وهو جواز الإئتمام باعتباره أثراً لترك شرب الخمر، فيقال هذا عادل بالوجدان ولم يشرب الخمر تعبداً بحديث الرفع، وذلك لأنَّ المفروض بناءً على هذا الإحتمال أنَّ الرفع رفع تشريعي للوجود الحقيقي لهذه العناوين والذي يعني أنَّ الشارع ينزل هذا الموجود منزلة المعدوم شرعاً، فحينئذٍ يترتب عليه موضوع جواز الإئتمام.

وأما بناءً على الإحتمال الثالث - العناية بالمرفوع - فالرفع حقيقي ولكنه لوجود هذه الأمور في عالم التشريع هو يعني أنَّ الفعل الذي يضطر إليه المكلف لا يقع موضوعاً لحكم في عالم التشريع، وهذا يعني أنَّ أحكام وآثار هذا الفعل لا تترتب عليه كالحرمة والحد، وأما إثبات الأحكام والآثار المترتبة على نقيضه كجواز الإئتمام فمما لا يمكن إثباته بإعتبار أنّ الحديث ليس فيه دلالة على ذلك، فإنه يقول الفعل الذي يضطر إليه المكلف لا يقع موضوعاً لحكم ولم يقل أنَّ نقيضه يترتب عليه حكم في عالم التشريع، وكذا الكلام بلحاظ سائر فقرات الحديث الأخرى.

تطبيق فقهي:

وعلى هذا الأساس تُطبق هذه الثمرة على مورد فقهي وهو ما إذا إضطر المكلف الى ترك جزء أو شرط في الصلاة، فلا إشكال في أنَّ هذا الإضطرار إذا لم يستوعب الوقت فلا إشكال في وجوب الإتيان بالصلاة التامة مع جزئها وشرطها، وإنما الكلام فيما لو إستوعب الإضطرار تمام الوقت فحينئذٍ لا إشكال في عدم وجوب الجزء والشرط عليه، ولكن هل يجب عليه الإتيان بباقي الأجزاء والشرائط أم لا؟

قالوا يمكن إثبات وجوب الإتيان بالباقي إعتماداً على ما تقدم فيقال بناءً على الإحتمال الثاني الذي يستبطن تنزيل الموجود منزلة المعدوم يمكن إثبات وجوب الباقي وإثبات صحة الصلاة من دون حاجة الى إعادتها، وذلك بتطبيق ما تقدم ولكن على الترك، ففي الفعل قلنا إذا إضطر الى شرب الخمر أمكن إثبات جواز الإئتمام بناءً على الإحتمال الثاني لأنَّ الرفع ينزل الشرب المضطر إليه منزلة العدم، وحيث أنّ هناك حكم يترتب على عدم الشرب فيترتب عليه، وأما في محل الكلام - الإضطرار الى الترك - فنقول إذا إضطر الى ترك السورة فالحديث بناءً على الإحتمال الثاني ينزل هذا الترك منزلة الوجود، فتكون الصلاة الفاقدة للسورة اضطرارا واجدة لها تعبداً وتنزيلاً ببركة حكومة الحديث على دليل وجوب الصلاة مع السورة، فيجب الإتيان بباقي الأجزاء وتصح منه على القاعدة بلا حاجة الى دليل خاص.