44/10/15
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة - فقه حديث الرفع
كان الكلام في دعوى إختصاص الحديث الشبهات الحكمية، وإستدل عليها بأنَّ فقرة الإستدلال (ما لا يعلمون) إذا طبقت على التكليف فيكون إسناد الرفع إليه حقيقياً ولا عناية فيه، وأما إذا طبقت على الموضوع في الشبهات الموضوعية فيشتمل الإسناد حينئذٍ على عناية لأنَّ الموضوع ليس مما لا يُعلم فتكون نسبة عدم العلم إليه بلحاظ حكمه وهذا من إسناد الشيء الى غير ما هو له فيكون إسناداً مجازياً، ومن الواضح إنَّ كل كلام يشمل أفراده الحقيقية ولا يشمل الأفراد المجازية إلا مع القرينة فيختص الحديث بالشبهات الحكمية.
وتقدم الإعتراض عليه أولاً بأن الموضوع في الشبهات الموضوعية لا يكون معلوماً دائماً فقد يكون مجهولاً وتكون نسبة عدم العلم إليه حقيقية.
وثانياً أن يقال ما الضير في أن يكون التطبيق في الشبهات الموضوعية على عنوان الموضوع الخارجي كالخمر لا على ذات الموضوع وهو السائل المردد بين الماء والخمر، وهذا العنوان مجهول حقيقية فيكون إسناد عدم العلم إليه إسناداً حقيقياً ولا تجوز فيه، بل تقدم إنَّ هذا الوجه هو الأنسب وذلك باعتبار أنَّ العنوان هو موضوع الحكم الشرعي ورفعه هو المناسب للشارع بما هو شارع.
ونضيف الى ما تقدم لو فرضنا أنَّ المراد من الإسم الموصول هو الحكم كما هو المدعى فمع ذلك يمكن تعميم الحديث للشبهات الموضوعية بما تقدم من أنَّ التكليف تارة يكون كلياً وأخرى يكون جزئياً، والمشكوك في الشبهات الحكمية هو التكليف الكلي - المعبر عنه بالشك في الحكم من جهة عدم النص أو إجماله أو من جهة تعارض النصين -، والمشكوك في الشبهات الموضوعية هو التكليف الجزئي لهذا الموضوع الخارجي، فهذا السائل المردد بين الماء والخمر مشكوك حكمه، فدعوى أنَّ المراد بالموصول هو التكليف لا تمنع من تعميم الحديث الى الشبهات الموضوعية والنسبة هنا حقيقية وتطبيق (ما لا يعلمون) يكون حقيقياً في كلتا الشبهتين بهذا الإعتبار.
النتيجة:
ومن هنا يظهر أنَّ الصحيح هو تعميم الحديث للشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية.
فقه الحديث
الكلام في فقه حديث الرفع يقع في جهات:
الجهة الأولى إنَّ الرفع نسب في الحديث الى الأمور التسعة، ولا إشكال في أنَّ أكثر هذه الأمور هي متحققة في الخارج وليست مرفوعة حقيقة، ومن هنا يقال لابد من إعمال عناية لتصحيح نسبة الرفع الى هذه الأمور، وهناك إحتمالات في هذه العناية:
الإحتمال الأول الإلتزام بالتقدير، فيكون المقدر هو المرفوع حقيقة، ثم إختلفوا في المقدر ما هو، فقال الشيخ الأعظم قده هو المؤاخذة، وقال بعضهم هو الأثر الظاهر، وبعضهم ذهب الى أنَّ المرفوع هو جميع الآثار، والجامع بين هذه الأقوال هو أنَّ المرفوع حقيقة هو الشيء المقدر، وبهذا نتجاوز الإشكال المتقدم الذي يقول إنَّ بعض الأمور التسعة نعلم أنه ليس مرفوعاً حقيقة فما معنى نسبة الرفع إليه.
الإحتمال الثاني أن تكون العناية في الرفع، فلا يكون الرفع في الحديث رفعاً حقيقياً وإنما هو رفع تشريعي تنزيلي تعبدي من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده) و (لا شك لكثير الشك)، فلا تقدير على هذا الإحتمال كما لا عناية في المرفوع، والمقصود هو رفع هذه الأمور الخارجية رفعاً تنزيلاً إعتبارياً.
الإحتمال الثالث أن تكون العناية في المرفوع، وذلك باعتبار أنَّ هذه العناوين كما أنَّ لها وجود حقيقي خارجي كذلك لها وجود تشريعي، بمعنى وقوع العنوان موضوعاً للحكم، فالمراد من هذه الأمور هو وجودها التشريعي فيكون الرفع لها حقيقياً، فالفعل الذي تضطر إليه لم يقع موضوعاً للحرمة في عالم التشريع، وهكذا في باقي الفقرات.
وهذا الإحتمال يرجع في الواقع الى رفع الحكم، وهو نظير (لا رهبانية في الإسلام) الذي يعني أنَّ المرفوع هو الوجود التشريعي للرهبانية أي لم تقع الرهبانية موضوعاً للحكم الشرعي ولو كان هو الجواز أو الإستحباب.
ثم الكلام يقع في مقامين:
الأول في بيان الثمرة بين الإحتمالات الثلاثة.
الثاني في تعيين ما هو الصحيح من بينها.
أما المقام الأول قالوا إنَّ الثمرة بين الإحتمال الأول من جهة وبين الاحتمالين الثاني والثالث من جهة أخرى تظهر في أنه بناءً على الإحتمال الأول يكون الحديث مجملاً إذ لا يُعلم ما هو المقدر هل هو المؤاخذة أو أظهر الآثار أو جميع الآثار؟
وبعبارة أوضح إنَّ الذي يُعين المقدر هو أحد شيئين:
الأول المناسبات العرفية، نظير المناسبات العرفية التي تعين أنَّ المقدر في ﴿وَسۡـَٔلِ ٱلۡقَرۡیَةَ﴾ هو (أهل)، وإذا ورد في الدليل (يحرم الخمر) فالمناسبات العرفية تحدد المقدر وهو (الشرب)، وكذا في ﴿حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ﴾ فالمقدر فيها هو (النكاح) كل ذلك بحسب هذه المناسبات العرفية، وهذه القرينة مفقودة في محل الكلام فإنَّ الإحتمالات الثلاثة كلها مناسبة عرفاً.
الأمر الثاني لتعيين المقدر هو إستفادة الإطلاق من حذف المتعلق، حيث قالوا إنَّ حذف المتعلق يفيد العموم، وهنا المتعلق محذوف فيفيد العموم، وهو يعني أنَّ المتعلق هو جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة ولا خصوص الأثر الظاهر، وتطبيق مقدمات الحكمة هنا بأن يقال حيث أنَّ المتكلم قال (رفع ما لا يعلمون) فهناك مقدر بحسب الإحتمال الأول، وقد سكت المتكلم عن بيانه وهو في مقام البيان فمقتضى الإطلاق هو أنه جميع الآثار.
ولكن مدعي الإجمال ينفي ذلك لوجود كلام في القاعدة وينتهي الى الإجمال، والإشكال ينشأ من أنَّ مقدمات الحكمة التي على أساسها يثبت الإطلاق ليست وظيفتها تعيين المفهوم وإنما وظيفتها نفي القيد المحتمل عن المفهوم المعين والذي يكون المراد منه واضحاً ، كما في (أعتق رقبة) الذي لا تردد فيه وإنما الشك في إعتبار قيد الإيمان في الرقبة، والذي يُنفى بمقدمات الحكمة، وأما إذا فرض التردد في نفس المفهوم أو في المراد منه فلا تُعينه مقدمات الحكمة، وفي محل الكلام ليس المراد نفي قيد نحتمل إعتباره وإنما التردد في أنَّ المقدر المحذوف الذي نُسب اليه الرفع ما هو، وهذا لا تجري فيه مقدمات الحكمة.
فكلا الأمرين لا يجريان في محل الكلام، فبناءً على الإحتمال الأول يكون الحديث مجملاً، بخلافه على الإحتمال الثاني والثالث، فإنَّ الثاني يقول إنَّ العناية في الرفع وهو رفع تعبدي تنزيلي وليس رفعاً حقيقياً، وهكذا الثالث الذي يقول إنَّ الرفع حقيقي ولكن المرفوع هو الوجود التشريعي لهذه الأمور لا الوجود الخارجي لها، فلا يلزم الإجمال على هذين الاحتمالين.