الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني

الدليل الثاني على دعوى إختصاص حديث الرفع بالشبهات الموضوعية وهو دعوى أنَّ مفهوم الرفع يقتضي أن يكون المرفوع مما فيه ثقل ومشقة، خصوصاً أنَّ الحديث وارد مورد الإمتنان، فلابد أن يكون المرفوع أمراً ثقيلاً ليصح تعلق الرفع به وأن في رفعه إمتنان على الأمة، وحينئذٍ يقال من الواضح أنَّ ما فيه الثقل هو الفعل في الواجبات والترك في المحرمات وهذه من الموضوعات، وأما مجرد الحكم بالوجوب أو الحرمة فليس فيه ثقل لأنه فعل صادر من المولى فلا معنى لكونه ثقيلاً على المكلف، نعم الحكم يوقع المكلف في الضيق ولكن من ناحية أخرى وهي إلزامه بالفعل في باب الواجبات والترك في باب المحرمات.

والملاحظة عليه:

إنَّ الرفع كما يصح إسناده الى الفعل كذلك يصح إسناده الى التكليف، فكما أنَّ الفعل الخارجي فيه ثقل ومشقة فكذلك التكليف، فيمكن إسناد الرفع الى التكليف من دون تجوز فيقال الحرمة مرفوعة على المكلف، وصحة هذا الإسناد باعتبار أنَّ التكليف هو السبب في إيقاع المكلف في الثقل والمشقة، وبعبارة أخرى التكليف هو السبب في تحميل الفعل أو الترك على المكلف، وكما يصح إسناد الرفع الى نفس الفعل فكذلك يصح إسناده بلا تجوز ولا عناية الى السبب، فالمشقة تنشأ من إلزام المكلف بالفعل أو الترك وسبب المشقة هو الحكم ومن دونه لا يقع المكلف في ذلك، وبهذه المناسبة يصح إسناد الرفع الى التكليف كما يصح إسناده الى الفعل الخارجي ولا موجب لتخصيصه بخصوص الموضوع.

بل يمكن أن يقال إنَّ ظاهر كون الحديث وارداً مورد الإمتنان هو رفع ما يكون سبباً للكلفة والمشقة، ولما كان الرافع هو الشارع فالمناسب هو أن يرفع ما يصدر منه وهو التكليف والحكم لا الموضوع الخارجي، فلو لم نقل بشمول الحديث لكل منهما فلابد من القول باختصاصه بالتكليف لا بالموضوع الخارجي كما إدعي هنا.

الدليل الثالث: ما يُستفاد من كلمات الشيخ الأعظم قده وحاصله: إنَّ المرفوع في الحديث هو المؤاخذة على ما لا يعلمه المكلف، والمؤاخذة على الفعل الذي إضطر إليه والمؤاخذة على ما لا يطيقه... الى آخر الفقرات، والمؤاخذة إنما تكون على الفعل في باب المحرمات أو على الترك في باب الواجبات فلابد من أن يكون المرفوع في فقرة (ما لا يعلمون) هو الفعل، وهذا يعني إختصاص الحديث بخصوص الشبهات الموضوعية.

والملاحظة عليه:

أولاً المناقشة في نفس المبنى، فإنَّ ظاهر الحديث هو إسناد الرفع الى الإسم الموصول (ما) وحمل الرفع على رفع المؤاخذة بحاجة الى قرينة واضحة، وهذا الموصول في معظم الفقرات يُراد به الفعل الخارجي، وفي فقرة الإستدلال إحتمالان رفع الفعل أو رفع التكليف وأما حمل الرفع على خصوص رفع المؤاخذة فبحاجة الى قرينة.

ثانياً لو سلَّمنا أنَّ المرفوع هو المؤاخذة فيمكن أن يجاب بأنَّ المؤاخذة كما تكون على الفعل فكذلك يصح أن تكون على التكليف، فالمؤاخذة على الحرمة بمعنى المؤاخذة على فعل الحرام، والمؤاخذة على الوجوب بمعنى المؤاخذة على ترك الواجب، فتصح نسبة المؤاخذة الى التكليف بهذا الإعتبار، أو قل أنَّ أثر مخالفة التكليف هو المؤاخذة، والحاصل إنه يصح أن يقال أنَّ المؤاخذة على التكليف الواقعي مرفوعة في حال الجهل بلا محذور فلا داعي لتخصيص الحديث بخصوص الشبهات الموضوعية.

النتيجة:

ومن هنا يتبين أنه لم ينهض وجه واضح لإثبات إختصاص الحديث الشريف بخصوص الشبهات الموضوعية.

الدعوى الثانية المقابلة لما تقدم هو إختصاص الحديث بالشبهات الحكمية، ويُستند فيها الى وجود قرينة على هذا الإختصاص وهي أنَّ تطبيق فقرة الإستدلال على الحكم لا تجوز فيه ولا عناية، وذلك لأنَّ الحكم في الشبهات الحكمية هو الذي لا يكون معلوماً حقيقة وواقعاً فإذا أريد ذلك من فقرة (ما لا يعلمون) كان ذلك تطبيقاً حقيقياً، وأما إضافة عدم العلم الى الموضوع في الشبهات الموضوعية ففيه عناية وتجوز لأنَّ الموضوع الخارجي فيها معلوم، فالمائع الخارجي المردد بين الماء والخمر معلوم ذاتاً والمجهول هو عنوانه، فإسناد عدم العلم الى ذات الموضوع الخارجي فيه عناية، وعلى هذا الإساس يقال حيث أنَّ إسناد عدم العلم الى الحكم في الشبهات الحكمية يكون حقيقياً فيكون داخلاً في الحديث بلا إشكال، وحيث أنَّ إسناد عدم العلم الى الموضوع الخارجي في الشبهات الموضوعية إسناد مجازي وهو من الإسناد الى الشيء باعتبار متعلقه لأنَّ غير المعلوم واقعاً هو العنوان والإسناد هنا الى الموضوع الخارجي وهو معلوم فيكون الإسناد اليه مجازياً، والحديث إنما يشمل الأفراد الحقيقية له وأما شموله للأفراد العنائية والمجازية فيحتاج الى قرينة، فلابد من الإقتصار على الشبهات الحكمية.

وهذه القرينة مستفادة من كلمات المحقق العراقي في نهاية الأفكار، وهو وإن ذكرها في محل آخر إلا أنه يمكن الإستفادة منها كوجه للتخصيص الحديث بالشبهات الحكمية، قال:

(مع أنَّ ذلك يقتضي إرتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة أخرى فإنَّ الظاهر من الموصول في (ما لا يعلمون) هو ما كان بنفسه معروض الوصف وهو عدم العلم كما في غيره من العناوين الأُخر كالإضطرار والإكراه حيث كان الموصول فيها معروضاً للأوصاف المزبورة، فتخصيص الموصول بالشبهات الموضوعة ينافي هذا الظهور إذ لا يكون الفعل بنفسه معروضاً للجهل وإنما المعروض له هو عنوانه...)[1]

ويلاحظ عليه:

أولاً إنَّ الموضوع في الشبهات الموضوعية لا يكون معلوماً دائماً بل قد يكون مجهولاً فيكون إسناد عدم العلم إليه حقيقياً، كما فرضنا أنَّ المكلف شك في وجوب الحج عليه من جهة الشك في حصول الإستطاعة وهي شبهة موضوعية بلا إشكال، فالشك هنا في نفس الموضوع فيصح أن نقول إنَّ إسناد عدم العلم فيها الى الموضوع هو إسناد حقيقي، فليس جميع الشبهات الموضوعية كما ذكر.

وكما لو فرضنا أنَّ المكلف شك في نزول المطر - مع فرض ترتب أثر شرعي عليه - فهذه شبهة موضوعية بلا إشكال والموضوع فيها غير معلوم فيمكن إسناد عدم العلم إليه بلا عناية كما يُسند الى الحكم الشرعي المجهول في الشبهات الحكمية، فليست جميع الشبهات الموضوعية يكون الموضوع فيها معلوماً دائماً حتى يقال إنَّ إسناد عدم العلم فيها غير حقيقي.

وثانياً نحن لا نحتاج في مقام تطبيق الحديث وإفتراض شموله للشبهات الموضوعية الى إنطباق عنوان (ما لا يعلمون) على الموضوع الخارجي حتى يقال إنه معلوم وتوصيفه بعدم العلم يكون مجازاً، وإنما يمكن تعميم الحديث للشبهات الموضوعية بتطبيق عنوان (ما لا يعلمون) على العنوان المجهول للموضوع، ففي المثال المتقدم ينطبق عنوان (ما لا يعلمون) على عنوان الخمر المجهول لا على ذات الموضوع فنقول إنَّ خمرية هذا المائع مجهولة فيكون إسناد عدم العلم إليه بهذا الإعتبار إسناداً حقيقياً.

ومن هنا يظهر أنَّ هذه القرينة لا يمكن الإلتزام بها لإثبات دعوى إختصاص الحديث بالشبهات الحكمية.

ومن يظهر أنه لا دليل على إختصاص الحديث بإحدى الشبهتين الموضوعية أو الحكمية، ومقتضى الإطلاق هو شموله لهما معاً.


[1] نهاية الأفكار، البروجردي، الشيخ محمد تقي، ج3، ص217.