الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني

كان الكلام في أنَّ حديث الرفع هل هو مطلق وشامل للشبهتين الحكمية والموضوعية أم يشتمل على قرائن تقتضي إختصاصه بإحدى الشبهتين؟

الدعوى الأولى هي إختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية، وكان الدليل عليه هو دعوى وحدة السياق، وذلك باعتبار أنَّ جميع فقرات الحديث عدا فقرة (ما لا يعلمون) يُراد بالإسم الموصول فيها الموضوع الخارجي فبمقتضى وحدة السياق لابد أن يراد بالموصول في فقرة الإستدلال الموضوع الخارجي أيضاً وإلا - لو أريد به التكليف - لانخرمت وحدة السياق، وعليه لابد من حمل فقرة الإستدلال على الموضوع الخارجي فيختص الحديث بلحاظ فقرة الإستدلال بالشبهات الموضوعية.

وقد يقال في قبال هذه الدعوى أنَّ وحدة السياق إنما تكون معتبرة وتوجب حمل الكلام على ما لا ينافيها عندما يكون الإختلاف في المراد الإستعمالي للدالين في الكلام فإذا أُريد بالدال الأول معنى استعمالي واُريد بالثاني معنى آخر انخرمت وحدة السياق، كما إذا قال: (صلِّ خلف الإمام) و (زُر الإمام) فالمراد بالإمام في الجملة الأولى هو إمام الجماعة والمراد به في الثانية هو الإمام المعصوم، فيكون اللفظ الواحد إستعمل في إحدى الجملتين في معنى وفي الأخرى في معنى آخر، وهنا يقال إنَّ مقتضى وحدة السياق أن يكون المراد منهما معنى استعمالي واحد، فإذا فرضنا وجود جمل كثيرة من هذا القبيل فمقتضى وحدة السياق أن تحمل على معنى واحد.

وهكذا الحال فيما لو كان الإختلاف في المراد الجدي كما في (أكرم العلماء) و (قلِّد العلماء) فالمراد الجدي من الجملة الثانية هو العالم المجتهد العادل بينما المراد الجدي من الأولى هو المطلق، وذلك بمقتضى مقدمات الحكمة التي تحدد المراد الجدي للمتكلم، وهذا يعني أنَّ مدلول (العلماء) في الجملتين واحد لكنهما يختلفان في المراد الجدي منهما، وهنا يُلتزم بأنَّ مقتضى وحدة السياق هو إتحاد المراد الجدي وإلا لانخرمت قاعدة وحدة السياق.

وأما إذا كان التعدد في مصداق المعنى في الخارج مع وحدة المراد الإستعمالي والمراد الجدي لهما كما لو قال: (لا تغصب مال زيد ولا مال عمرو) وكان مال زيد داراً ومال عمرو بستاناً، فهنا لا إختلاف في المدلول الإستعمالي لأنَّ الدار والبستان مال ولا في المراد الجدي للمتكلم لأنَّه ينهى عن غصب المال في الجملتين، نعم مال زيد في الخارج منحصر في الدار ومال عمرو في الخارج منحصر في البستان، وهذا الإختلاف هو في مصاديق المعنى الواحد وهو لا يوجب عدم وحدة السياق، ويدعى أنَّ المقام من هذا القبيل فالجمل المتعاطفة في حديث الرفع لا اختلاف فيها لا في المراد الإستعمالي ولا في المراد الجدي وإنما الإختلاف في ما ينطبق عليه إسم الموصول في الخارج، وهو بلحاظ فقرات الحديث - ما عدا فقرة الإستدلال - الموضوع الخارجي، وما ينطبق عليه إسم الموصول في فقرة (ما لا يعلمون) هو الأعم من الموضوع الخارجي ومن التكليف، وهذا لا يوجب انثلام وحدة السياق، فيبقى السياق واحداً حتى إذا قلنا أنَّ إسم الموصول في فقرة الإستدلال يراد به التكليف.

الملاحظة على هذا الجواب:

هذا الجواب كأنه يدعي دعويين:

الأولى: أنَّ ما يضر بوحدة السياق والظهور العرفي للكلام إنما هو الإختلاف في المدلول الإستعمالي فقط وأما الإختلاف في المراد الجدي وفي المصاديق فلا يضر بها.

والثانية: أنَّ ما نحن فيه هو من قبيل الإختلاف في المصاديق وليس من قبيل الإختلاف لا في المراد الإستعمالي ولا في المراد الجدي، ولذا لا تنثلم وحدة السياق في الحديث، فلا يصح أن تجعل وحدة السياق قرينة على إختصاص الحديث بخصوص الشبهات الموضوعية.

ويمكن المناقشة في كلا الدعويين:

أما الأولى فيستشكل فيها بأنَّ الاختلاف في المراد الجدي مع وحدة المراد الإستعمالي ينافي الظهور العرفي ووحدة السياق كما في مثال (أكرم العلماء) و (قلد العلماء) فهنا المراد الجدي مختلف مع وحدة المراد الإستعمالي وهو يضر بوحدة السياق.

وهذه الدعوى من الصعب جداً إقامة البرهان عليها أو على نفيها وإنما هي قضية إستظهارية وهي أشبه بالقضية الوجدانية، ونحن بالوجدان لا ندرك أنّ الإختلاف في المراد الجدي يكون مخالفاً للظهور العرفي ولوحدة السياق بحيث يتعين إفتراض وحدة المدلول الجدي دفعاً لهذه المخالفة، نعم المُسلّم هو أنَّ الإختلاف في المراد الإستعمالي يؤثر في وحدة السياق.

وأما الدعوى الثانية ففي قبالها دعويان إحداهما تقول أنَّ المقام من قبيل القسم الثاني أي الإختلاف في المراد الجدي مع وحدة المراد الاستعمالي، وهذه الدعوى تقوم على أساس أنَّ المراد الجدي إذا كان مخالفاً للمدلول الإستعمالي فهو يتحدد بالقرينة عادة كما في مثال (قلد العلماء) فإنَّ المراد الجدي من (العلماء) هو خصوص الفقهاء المجتهدون العدول بينما المراد الإستعمالي منها هو مطلق العلماء، واستفادة هذا الإختصاص يكون بالقرينة كمناسبات الحكم والموضوع، ثم يقال إنَّ الأمر كذلك في محل الكلام فإنَّ صلة الموصول هي التي تحدد ما هو المراد الجدي لهذا الكلام وليس هو الإسم الموصول على إطلاقه وإبهامه وإنما هو الشيء الذي يضطر إليه المكلف في فقرة (ما اضطروا إليه)، والشيء الذي يُكره عليه المكلف في فقرة (ما أكرهوا عليه) وهكذا، فيقال ذلك في فقرة (ما لا يعلمون) وأنَّ المراد الجدي للمتكلم هو الشيء الذي لا يُعلم به، فالإختلاف بين (ما لا يعلمون) وبين (ما اضطروا إليه) يكون في المراد الجدي الذي تحدد على ضوء صلة الموصول وهو مختلف فكيف يقال أنَّه غير مختلف في فقرات الحديث وأنَّ الإختلاف إنما هو بلحاظ المصاديق فقط!

والصحيح أنَّ المراد الجدي متعدد وأنَّ المراد الإستعمالي واحد في فقرات الحديث وهو الموصول في معناه المبهم.

ومنه يظهر أنَّ هذه الدعوى ليست تامة.

الدعوى الثانية في مقابل الإطلاق هو أن يقال إنَّ محل الكلام هو من قبيل القسم الأول أي الإختلاف في المراد الإستعمالي فتنثلم وحدة السياق ويصح الإستدلال بهذه القرينة على إختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية، والدليل عليه هو أنَّ الإختلاف في فقرات الحديث إنما هو في المراد الإستعمالي وذلك باعتبار أنَّ الحديث يشتمل على الإسم الموصول والصلة وهي قرينة متصلة ينعقد ظهور الكلام على طبقها نظير (العادل) في (جاء الرجل العادل) التي تمنع من إنعقاد الظهور في مطلق الرجل وتوجب انعقاده في الخاص، فصلة الموصول في محل الكلام تمنع من انعقاد ظهور لإسم الموصول في معناه الحقيقي وتقتضي إنعقاد الظهور على طبق القرينة، وهذا يعني أنَّ إسم الموصول لم يُستعمل في معناه في سائر الفقرات فلا توجد وحدة في المراد الإستعمالي فضلاً عن المراد الجدي والمصاديق الخارجية، فيكون المراد الإستعمالي من اسم الموصول في فقرة (ما اضطروا إليه) هو خصوص الفعل الذي يضطر إليه المكلف، وكذا في باقي الفقرات، وهذه معاني متعددة مختلفة استعمل فيها الاسم الموصول فيتعدد المراد الإستعمالي فيكون حديث الرفع من القسم الأول الذي لا شك عندهم في أنه يوجب انثلام وحدة السياق.

ولكن هذه الدعوى غير مقبولة وذلك لأنَّ القرينة المتصلة تمنع من إنعقاد الظهور الجدي وليس الظهور الإستعمالي، فالكلام يبقى مستعملاً في معناه الحقيقي العام لكن المراد منه هو المعنى الخاص، فإذا قال (أكرم الرجل العادل) فالرجل إستعمل في معناه الكلي العام وإنما فهمنا الخاص من باب تعدد الدال والمدلول وذلك بضم كلمة (العادل) الى كلمة (الرجل)، فالقرينة المتصلة توجب إنعقاد الظهور الجدي على طبقها ولا تقول أنَّ المراد الإستعمالي هو الخاص بل هو الإستعمالي باق على إطلاقه بالرغم من وجود القرينة المتصلة، وبه يثبت أنَّ المراد الإستعمالي واحد في جميع فقرات حديث الرفع لأنَّ الإسم الموصول فيها لم يستعمل إلا في معناه العام وإن كان المراد الجدي في كل فقرة هو الخاص، وعلى هذا الأساس قلنا أنَّ هناك تعدد في المراد الجدي في حديث الرفع بحسب فقراته وأما المراد الإستعمالي فهو واحد وهو مفهوم الشيء، فهذه الدعوى غير مقبولة أيضاً.

النتيجة:

إنَّ قرينة وحدة السياق إنما تنثلم عندما يتعدد المراد الإستعمالي وأما ما عدا ذلك فلا، وعليه يكون المراد الإستعمالي في حديث الرفع واحداً، والمراد الجدي وإن كان متعدداً لكنه لا يوجب انثلام وحدة السياق، فلا يصلح ما قيل من أنه يكون قرينة على إختصاص الحديث بخصوص الشبهات الموضوعية.

هذا هو تمام الكلام في الدليل الأول على هذا الإختصاص.