44/10/10
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني
الوجه الثاني هو ما ذكره السيد الخوئي قده في مصباح الأصول، وهو إنَّ إشكال الجمع بين نسبتين مختلفتين في إسناد واحد إنما يلزم إذا كان الرفع في الحديث حقيقياً وذلك باعتبار أنَّ إسناد الرفع الحقيقي الى التكليف هو إسناد حقيقي، وإسناد الرفع الحقيقي الى الموضوع إسناد مجازي عنائي لأنّ الموضوع لا يرتفع حقيقة كما هو واضح، فيلزم الجمع بين إسنادين أحدهما حقيقي والآخر مجازي في إسناد واحد، ولكن هذا كله بناءً على تفسير الرفع بالرفع الحقيقي، وأما إذا قلنا أنَّ المراد بالرفع هو الرفع التشريعي الذي مرجعه الى أنَّ الشيء المرفوع لم يقع موضوعاً في عالم التشريع ولم يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية فلا يلزم ذلك، فمعنى رفع التكليف هو أنه لم يُشرع، وهذا يشمل كلتا الشبهتين، أما معنى الرفع التشريعي في الشبهة الموضوعية فيعني أنَّ هذا الموضوع الخارجي لم يقع موضوعاً للأثر الشرعي في عالم التشريع، وأما معناه في الشبهة الحكمية فيعني أنَّ الحكم المشكوك مرفوع في عالم التشريع، بمعنى أنه ليس له ثبوت في عالم التشريع، فينحل الإشكال لأنَّ إسناد الرفع التشريعي الى كل من الموضوع والحكم واحد ولا يلزم منه الجمع بين نسبتين مختلفتين.
ويلاحظ عليه:
إنَّ الرفع التشريعي المتصور بالنسبة الى الموضوع الخارجي لا يمكن تصوره بالنسبة الى الحكم الشرعي لوضوح أنَّ الحكم والتكليف هو بنفسه تشريع إلهي ولا معنى لرفعه بالمعنى المتصور في الموضوع الخارجي، أي بمعنى أنه لا يقع موضوعاً للحكم الشرعي في عالم التشريع، بل معنى الرفع في التكليف والحكم هو الرفع الحقيقي دائماً، فيعود الإشكال وهو الجمع بين إسنادين أحدهما حقيقي - وهو إسناد الرفع التشريعي الى التكليف - والآخر مجازي - وهو إسناد الرفع التشريعي الى الموضوع الخارجي - في إسناد واحد.
ولو سلَّمنا أنَّ الرفع بالنسبة الى الحكم هو رفع حقيقي وليس رفعاً تشريعياً فتأتي فيه إشكالات منها لزوم التصويب وإختصاص الأحكام بالعالمين بها، وهذا ما فرغنا عن عدم معقوليته.
الوجه الثالث: أن يقال إنَّ الرفع في الحديث هو رفع عنائي مجازي سواءً اُسند الى الموضوع كما في الشبهات الموضوعية أو اُسند الى التكليف كما في الشبهات الحكمية، أما الأول فواضح لأنَّ الموضوع لا يرتفع حقيقة كما مر، وأما الثاني فواضح أيضاً لأنَّ المرفوع في الشبهات الحكمية ليس هو التكليف الواقعي وإنما هو وجوب الإحتياط، أو قل إنَّ الرفع رفع ظاهري للتكليف الواقعي وهو يعني عدم وجوب الإحتياط تجاه التكليف الواقعي المشكوك، وهذا ما نقوله في قبال من يذهب الى وجوب الإحتياط تجاهه، فإنَّ وجوب الإحتياط عند الشك في التكليف الواقعي يكون وضعاً ظاهرياً للتكليف الواقعي المشكوك، وعدم وجوب الإحتياط يكون رفعاً ظاهرياً له، فالمرفوع واقعاً وحقيقة وهو وجوب الإحتياط تجاه التكليف الواقعي المشكوك وليس نفس التكليف الواقعي المشكوك، فإسناد الرفع الى التكليف إسناد مجازي أيضاً، فلا يكون هناك جمع بين إسنادين مختلفين، وهذا هو الصحيح في الجواب عن هذه الشبهة.
ولو قلنا إنَّ التكليف المشكوك مرفوع حقيقية وواقعاً للزم محذور التصويب ولكانت التكاليف الواقعية مختصة بالعالمين بها وهو باطل بلا إشكال.
الأمر الثاني: البحث الإثباتي في إطلاق حديث الرفع أو عدمه
بعد الفراغ من البحث الثبوتي في إمكان تصوير جامع بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية نقول: هل يمكن التمسك بإطلاق حيث الرفع لإثبات شموله لكلتا الشبهتين أم أنَّ هناك قرائن تمنع من إطلاق الحديث؟
أو قل إنَّ القرائن تقتضي إختصاص الحديث بالشبهة الحكمية فقط، ويقال في قباله إنَّ هناك قرائن تقتضي إختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية فقط، وهذا بحث مهم جداً إذ به يثبت أنَّ البراءة كما تجري في الشبهات الحكمية تجري في الشبهات الموضوعية، أو نقول إنها تختص إما بالشبهات الحكمية أو بالشبهات الموضوعية.
وهناك دعويان في قبال إطلاق الحديث الأولى أنَّ الحديث يختص بالشبهات الموضوعية ولا يشمل الشبهات الحكمية، والثانية بعكسها.
أما الدعوى الأولى فقالوا أنَّ القرينة على الإختصاص بالشبهات الموضوعية هي وحدة السياق، فإنَّ المرفوع هي تسعة أمور أحدها (ما لا يعلمون)، والمراد من الإسم الموصول ونحوه في الفقرات الثمان الأخرى هو الموضوع الخارجي، فيقال إنّ فقرة (ما لا يعلمون) إذا حملناها على التكليف أو على الجامع بينه وبين الموضوع إختلت وحدة السياق بخلاف ما إذا حملناها على الموضوع الخارجي فإنها تنسجم مع باقي الفقرات، وهذه قرينة على إختصاص الحديث بالشبهات الموضوعية.
وأجيب عنها بأنَّ إسم الموصول مستعمل في جميع الفقرات بمعنى واحد وهو مفهوم الشيء، فكأنه قيل: رفع عن أمتي الشيء الذي أكرهوا عليه، والشيء الذي اضطروا إليه، والشيء الذي أخطأوا فيه... والشيء الذي لا يعلمونه، وإنما نفهم الخصوصيات في هذه الفقرات من صلة الموصول لا من نفس الموصول وهذا من قبيل تعدد الدال والمدلول فـــ(ما اُكرهوا عليه) يدل على أنَّ المرفوع هو الشي المقترن بالإكراه، و(ما اضطروا إليه) يدل على أنَّ المرفوع هو الشيء المقترن بالاضطرار، وهكذا، و(ما لا يعلمون) يدل على أنَّ المرفوع هو الشيء الذي لا تعلم به، فإذا كان غير المعلوم هو التكليف فلم تختل وحدة السياق!
وبعبارة أخرى إنّ هذا الإختلاف - على تقدير أن يكون المراد بــ (ما لا يعلمون) هو التكليف - إنما هو في إنطباق المفهوم الذي اُسند إليه الرفع خارجاً، أي أنَّ الإختلاف بين الفقرات ليس في المعنى المستعمل فيه للفظ وإنما هو في مصاديق ما إستعمل فيه اللفظ، فالشيء الذي اضطروا إليه مصداقه هو الموضوع الخارجي، والشيء الذي أكرهوا عليه مصادقه هو الموضوع الخارجي، والشيء الذي لا نعلم به له مصداقان التكليف والموضوع الخارجي، وهذا الإختلاف في المصداق لا يوجب انثلام وحدة السياق.
والذي يبدو هو أنَّ الإختلاف بين دال ودال آخر تارة يكون في المدلول الإستعمالي وأخرى يكون في المدلول الجدي وثالثة يكون في مصاديق هذا المدلول، وليس من مقتضى وحدة السياق إتحاد المدلولين حتى في مصاديقهما، نعم قد يقال أنّ مقتضى وحدة السياق إتحاد المدلولين في المراد الإستعمالي فإذا إستُعمل الدال الأول في معنى استُعمل الدال الآخر في معنى مغاير للأول فيقال إنه يوجب انثلام وحدة السياق، أو يكون الإختلاف في المراد الجدي كما إذا قال: (أكرم العلماء) وقال: (قلد العلماء) فالمراد الجدي في الثاني هو العلماء المجتهدين العدول لا مطلقاً، بخلافه في الأول فإنَّ المراد به مطلق العلماء بمقتضى مقدمات الحكمة، فيمكن أن يقال هنا أنَّ مقتضى وحدة السياق هو عدم إختلاف الجملتين في المراد الجدي، وأما أن يقال إنَّ مقتضى وحدة السياق هو عدم إختلاف الجملتين في المصداق الخارجي لمدلولهما فهذا لا مجال له وما نحن فيه من هذا القبيل.