الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/10/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني

كان الكلام في حديث الرفع وإنتهينا من المقام الأول وهو في كيفية الإستدلال بالحديث على البراءة.

أما المقام الثاني وبعد الفراغ عن تمامية الإستدلال بالحديث على البراءة يقع الكلام في أنَّ البراءة الثابتة بهذا الحديث هل هي مطلقة وجارية في الشبهات الحكمية والموضوعية معاً أم تختص بالشبهات الحكمية؟ فالكلام هنا في إطلاق الحديث أو عدم إطلاقه.

والكلام في هذا المقام يقع في أمرين:

الأمر الأول في إمكان تصور جامع بين الشبهتين الحكمية الموضوعية في الواقع، وهذا بحث ثبوتي.

الأمر الثاني في البحث الإثباتي، فبعد الفراغ من تصور جامع بين الشبهتين ثبوتاً يقع الكلام في أنَّ حديث الرفع هل فيه إطلاق يشمل كلتا الشبهتين أم لا، وهذا البحث يُطرح في قبال من يدعي أنَّ الحديث في مقام الإثبات يختص بإحدى الشبهتين وهي الشبهة الموضوعية كما قيل، أو إحتمال إختصاصه بالشبهة الحكمية كما سيأتي، ففي هذا البحث يقال هل يمكن التمسك بإطلاق الحديث لإثبات شموله لكلتا الشبهتين؟

أما المقام الأول فقد يقال بعدم وجود جامع بين الشبهتين وذلك باعتبار أنَّ الموصول في فقرة الإستدلال (ما لا يعلمون) في الشبهات الحكمية هو الحكم والتكليف، وفي الشبهات الموضوعية هو الموضوع مع العلم فيها بالحكم، فلا نعلم أنَّ هذا الموضوع هو خمر أو ماء، وعليه يقال لا جامع بين التكليف وبين الموضوع الخارجي.

جواب المحقق الخراساني قده:

ذكر صاحب الكفاية إحتمالاً للجامع بين التكليف والموضوع وهو عنوان (الشيء) فيكون مدلول الإسم الموصول (ما) هو ما يساوق الشيء، أي رفع الشيء الذي لا تعلم به، وغير المعلوم تارة يكون هو الحكم كما في الشبهات الحكمية وأخرى يكون هو الموضوع كما في الشبهات الموضوعية.

الإشكال على كلام المحقق الخراساني قده

إلا أنَّ هذا الطرح واجه إشكالاً وحاصله أنه يلزم منه الجمع في إسناد واحد بين إسنادين أحدهما حقيقي وآخر مجازي، وذلك باعتبار أنَّ الموصول إذا أُخذ بمعنى الشيء واُسند إليه الرفع فهو إسناد واحد فإذا أريد تطبيقه على الشبهات الحكمية فيراد منه التكليف والحكم وإسناد الرفع إليه يكون إسناداً حقيقياً، بينما إسناد الرفع الى الموصول إذا اُريد منه الموضوع في الشبهات الموضوعية يكون إسناداً مجازياً، لأنَّ الموضوع الخارجي لا يرتفع بحديث الرفع كما هو الواضح، فكيف يمكن إسناد الرفع الى الاسم الموصول مع إرادة الجامع بين الحكم وبين الموضوع الخارجي الذي يلزم منه الجمع بين إسناد الشيء الى ما هو له وبين إسناد الشيء الى ما ليس له، هذا محال.

ومرجع هذا الإشكال الى إستعمال اللفظ أو الهيئة في إستعمال واحد في أكثر من معنى، فكأن الهيئة التي فُهم منها الإسناد الى الإسم الموصول - وهي هيئة واحدة - لا يجوز أن تستعمل في أكثر من معنى، نعم إذا كان هناك جامع بين المعنيين وإستعمل فيه اللفظ فهو من إستعمال اللفظ في معنى واحد ولا محذور فيه، وأما مع فرض عدم وجود الجامع بين المعنيين لتباينهما فيكون إستعمال الهيئة الواحدة في أكثر من معنى.

جواب الإشكال

وأجيب عن هذا الإشكال بوجوه نذكر ثلاثة منها:

الوجه الأول: أن يقال أنَّ المراد من الإسم الموصول هو التكليف فقط ويكون إسناد الرفع إليه حقيقياً، ولا يلزم الجمع بين إسنادين، ومع ذلك يمكن تعميم الحديث للشبهات الموضوعية بدعوى أنَّ التكليف فيها يكون مشكوكاً أيضاً، غاية الأمر أنَّ التكليف غير المعلوم في الشبهات الحكمية هو الحكم الكلي، وفي الشبهات الموضوعية هو الحكم الجزئي، فإنَّ الشك في أنَّ هذا المائع هل هو خمر أو ماء يستلزم الشك في الحرمة والحلية ولكن الشك هنا ليس في الحكم الكلي وإنما في الحكم الجزئي لهذا المائع المردد، فيمكن التعميم لكلتا الشبهتين بهذا الوجه وينتفي بذلك الإشكال.

ولوحظ عليه:

أولاً: بأنَّ إرادة خصوص التكليف من الإسم الموصول لا دليل عليه، واسم الموصول مفهوم مبهم يُشار به عادة الى أعم المفاهيم وهو مفهوم الشيء، وهو لا يختص بشيء دون آخر فتخصيصه بالتكليف دون غيره لا دليل عليه، فيكون هذا الجواب دعوى لا أكثر.

ويمكن الجواب عن هذه الملاحظة بأنه لا إشكال في أنه لا يمكن الإلتزام بالحديث على إطلاقه لأنه يقتضي رفع كل شيء لا نعلم به، فلابد من تقييد الحديث، وهذا التقييد يكون بما يناسب كون الرفع صادراً من الشارع، وهو تقييد الموصول بالتكليف لأنه هو المناسب لصدور الرفع من الشارع بما هو شارع، بخلاف الموضوع فإن رفعه ووضعه ليس بيد الشارع بما هو شارع وإنما بما هو خالق وموجد للأشياء، فتفسير إسم الموصول بالتكليف له وجه.

وثانياً: إنَّ هذا الوجه قد يحل الإشكال في فقرة الإستدلال (ما لا يعلمون) وذلك بأن يقال إنَّ المراد من الإسم الموصول هو التكليف فقط مع شموله للشبهتين بالتقريب السابق، لكنه لا يحل الإشكال بلحاظ مجموع الحديث وذلك باعتبار أنَّ الرفع أسند في صدر الحديث الى تسعة أشياء وكلها - ما عدا فقرة الإستدلال - يراد بها الموضوع الخارجي، فالمراد من (ما استكرهوا عليه، وما اضطروا إليه، وما لا يطيقون، والخطأ، والنسيان) هو الفعل والموضوع الخارجي، وبناءً على ما قيل من أنَّ فقرة الإستدلال تختص بالتكليف فحينئذٍ يعود الإشكال لكن بصيغة أخرى، فيقال إنّ إسناد الرفع الى الفقرات التسعة إسناد واحد يجمع بين إسنادين أحدهما حقيقي وهو إسناده الى التكليف، والآخر مجازي وهو إسناده الى الأفعال الخارجية، ولا جامع بينهما، فيعود الإشكال.

هذا هو الوجه الأول وتبين أنَّ الإعتراض الثاني وارد عليه.