44/08/21
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني
كان الكلام في القرينة الثالثة التي ذكرت لترجيح أنَّ الرفع في الحديث هو رفع ظاهري لا واقعي، وحاصله: أنَّ ما يُستفاد من الحديث هو رفع الشيء الذي لولا حديث الرفع لكان ثابتاً، وهذا لا ينطبق إلا على وجوب الإحتياط لأنه هو الذي يمكننا أن نقول لولا حديث الرفع لكان ثابتاً، ولوجب الإلتزام بالإحتياط كما يقول الأخباريون، ولا يصح القول أنَّ التكليف الواقعي لولا حديث الرفع لكان ثابتاً فقد يكون ثابتاً وقد لا يكون كذلك، فحمل الرفع على رفع التكليف الواقعي لا ينسجم مع ظاهر الحديث.
والتعليق على كل ما تقدم:
لا ينبغي الإشكال والتوقف في حمل الرفع في الحديث على الرفع الظاهري، وذلك بإعتبار أنَّ حمله على الرفع الواقعي غير ممكن أصلاً إما لمحذور ثبوتي وإما لمحذور إثباتي فيتعين حمله على الرفع الظاهري، وتوضيح ذلك:
إنَّ الرفع التكليف الواقعي في حال الشك لازمه إختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها، وهو يعني أنَّ التكليف الواقعي مقيد ثبوتاً بالعلم به، فكأنه يقال أيها العالم بالتكليف يثبت عليك التكليف، وأما الجاهل فلا تكليف في حقه، وتقييد التكليف الواقعي فيه محاذير إما ثبوتاً أو إثباتاً، أما المحاذير الثبوتية فهي ما ذكر في مسألة إشتراك الأحكام بين العالم والجاهل وعدم إختصاصها بالعالم بها وهما محذوران:
الأول لزوم الدور، والثاني سلخ العلم عن دوره الحقيقي، فإنّ دوره بالنسبة الى متعلقه هو دور الكاشف فقط وليس له دور في صنع متعلقه وإيجاده.
أما الأول - وهو لزوم الدور - فلأنّ الرفع الواقعي يلزم منه إختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها، وهو يعني أنَّ التكليف الواقعي مقيد بالعلم به، وهذا معناه أنَّ التكليف متوقف على العلم به، والحال أنَّ العلم بالتكليف متوقف على التكليف توقف كل علم على معلومه، فيلزم الدور.
وأما الثاني - وهو سلخ العلم عن حقيقته - فبإعتبار أنَّ العلم بالتكليف بمقتضى التقييد يكون دخيلاً في صنع التكليف ومن علل وجوده فلا يكون دوره دور الكاشف عن التكليف، وهذا لا يمكن قبوله إذ لا إشكال في أنَّ دور العلم هو دور الكاشف عن متعلقه ولا يساهم في صنعه.
هذان محذوران ثبوتيان يلزمان من القول بأنَّ الرفع في الحديث رفع واقعي.
وقد يقال بإمكان التخلص من هذين المحذورين الثبوتيين بالتمييز بين الجعل والمجعول، والجعل هو ما يصدر من الشارع من جعل الحكم على موضوعه على نهج القضية الحقيقية الشرطية عادة، فقوله ﴿تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[1] قضية حقيقية شرطية مفادها هو إذا تحققت الإستطاعة وجب الحج، وهذا الجعل غير منوط بوجود الإستطاعة في الخارج، ثم إذا تحققت الإستطاعة في الخارج بالنسبة الى مكلف معين صار الوجوب فعلياً في حقه وهو المعبر عنه بالمجعول، وعليه نقول:
إنَّ العلم بالجعل أُخذ في موضوع المجعول، كما قلنا في آية التقصير (.. إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفُسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه.) أي العالم بوجوب التقصير يصبح هذا الحكم في حقه فعلياً، ولذا تجب عليه الإعادة، وأما إذا لم يكن عالماً بالجعل فلا يكون الحكم فعلياً في حقه فلا تجب عليه الإعادة، وعليه لا يلزم الدور ولا سلخ العلم عن حقيقته وواقعه، أما دفع إشكال الدور فلأنَّ المجعول موقوف على العلم بالجعل لا على نفسه فالمعلوم شيء وهو الجعل والموقوف على العلم شيء آخر وهو المجعول، فيتعدد الموقوف والموقوف عليه وبذلك يرتفع محذور الدور.
وأما المحذور الثاني فيندفع بأنَّ هذا العلم لا يُساهم في صنع متعلقه لأنَّ العلم تعلّق بالجعل والجعل لا يتوقف على العلم، فما يكشف عنه العلم هو الجعل والعلم لا يساهم في صنعه، وما يتوقف على العلم هو المجعول وهو وإن ساهم في صنعه إلا أنه ليس متعلقاً له، وبذلك نتخلص من كلا المحذورين.
وجوابه: إنَّ هذا صحيح في نفسه ويرفع كلا الإشكالين الثبوتيين، ولكن الإشكال لا ينحصر بهما، وذلك لوجود إشكال إثباتي آخر وهو إنَّ هذا المعنى خلاف ظاهر الدليل وذلك بأن نقول أن الإسم الموصول في (رفع ما لا يعلمون) يراد به شيء وهو الجعل، والمرفوع شيء آخر وهو المجعول، فالمرفوع غير المعلوم، ولكنه خلاف ظاهر الدليل فإنه يقول (رفع ما لا يعلمون) الظاهر في أنَّ المرفوع هو نفس ما لا نعلم به، فإن كان غير المعلوم هو الجعل فيكون المرفوع هو الجعل، وكذا الكلام في المجعول، وأما أن يكون غير المعلوم شيء والمرفوع شيء آخر فهذا خلاف ظاهر الحديث.
ومن هنا نقول لابد من الإلتزام بالرفع الظاهري وأن المرفوع هو وجوب الإحتياط، وهذا وهو خال عن الإشكال ثبوتاً وإثباتاً، وهو الصحيح، وعليه يتم التقريب المتقدم للإستدلال بحديث الرفع على البراءة.
تتمة: إنَّ المحذور الإثباتي المتقدم المترتب على التفرقة بين الجعل والمجعول غير مطرد، فيمكن الإلتزام بالتفرقة بين الجعل والمجعول في بعض الموارد إذا دلَّ الدليل عليه، وقد دلَّ الدليل في بعض الأحكام الشرعية على ذلك كما في مسألتي القصر والإتمام والجهر والإخفات، فإنَّ عدم وجوب الإعادة على من صلى قصراً إشارة الى عدم وجود تكليف فعلي في حق غير العالم بوجوب التقصير، ونفس الكلام يأتي في مسألة الجهر والإخفات، فنلتزم به حيث يدل الدليل عليه لخلوه عن المحذور الثبوتي.
ثم نقول: إنَّ التقريب الأول للإستدلال بحديث الرفع على البراءة كان يبتني على إفتراض أنَّ الرفع هو رفع ظاهري، وهنا نسأل هل يتوقف الإستدلال بالحديث على ذلك أم يمكن الإستدلال به على البراءة وإن كان الرفع رفعاً واقعياً؟ هذا مع قطع النظر عن المحاذير المتقدمة.
قد يقال لا يتوقف الإستدلال على ذلك، وذلك باعتبار أنَّ الغرض من الإستدلال بالحديث هو إثبات التأمين والسعة وعدم المسؤولية تجاه التكليف المشكوك، وهذا يحصل بالحديث سواء كان الرفع فيه رفعاً ظاهرياً أم كان رفعاً واقعياً فإنه يعني رفع أصل التكليف في حال الجهل فيثبت التأمين على كل حال، فلماذا يكون الإستدلال موقوفاً على أن يكون الرفع رفعاً ظاهرياً؟
وقد يقال في المقابل بأنَّ الثمرة تظهر في بعض الموارد التي قام فيها الدليل الخاص على عدم إختصاص الحكم الواقعي بفرض العلم على تقدير ثبوته في نفسه ففي هذه الحالة يقال بأنَّ الرفع إن كان رفعاً ظاهرياً أمكن الإستدلال بالحديث لإثبات التأمين، وإما إذا كان الرفع رفعاً واقعياً فالمفروض أننا نعلم أنَّ التكليف على تقدير ثبوته يشمل فرض عدم العلم فكيف يمكن التمسك بحديث الرفع لإثبات عدم التكليف في فرض عدم العلم، فلابد من تقييد الحديث بغير هذا المورد وبالتالي لا يمكن إثبات التأمين فيه، وتوضيحه:
لو فرضنا أننا علمنا في بعض الموارد أنَّ التكليف يشمل العالم والجاهل فنقول إن كان الرفع في الحديث رفعاً ظاهرياً أمكن الإستدلال به لإثبات التأمين بحق الجاهل بالتكليف وإن كان في الواقع ثابتاً في حقه، وأما إذا قلنا أنَّ الرفع رفع واقعي فالتمسك بالحديث لإثبات التأمين في هذا المورد يكون ناشئاً من عدم وجود تكليف في الواقع، وكيف ينسجم هذا مع الدليل الدال على أنَّ التكليف لا يختص بالعالم ! هذان لا يجتمعان، فمن هنا لابد أن نقول أنَّ حديث الرفع لا يشمل هذا المورد، وهذا يعني أنه لا يمكن التمسك بحديث الرفع لإثبات التأمين في هذا المورد بناء على الرفع الواقعي وأما بناءً على الرفع الظاهري فيمكن ذلك، وهذه ثمرة تظهر بين إستظهار الرفع الواقعي أو الرفع الظاهري.
وهذا في قبال ما تقدم من أنه لا ثمرة بين الرفع الواقعي والرفع الظاهري إذ يمكن على كلا التقديرين إثبات التأمين في ظرف الجهل بالتكليف.
والصحيح في المقام هو عدم توقف الإستدلال على البراءة على إستظهار الرفع الظاهري، فلو فرضنا إجمال الحديث من هذه الناحية فمع ذلك يمكن الإستدلال به على البراءة، نعم إذا إستظهرنا الرفع الواقعي فلا يمكن الإستدلال على البراءة.