44/08/19
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني
ويضاف الى ذلك أنَّ وثاقة حريز المسلمة وصحة شهادة يونس يستلزمان أن تكون جميع روايات حريز عن الإمام الصادق عليه السلام بالواسطة إلا حديثاً أو حديثين، وهذا غير صحيح لأنَّ جماعة ممن نقل عن حريز نقل عنه روايات تختلف قلة وكثرة بإختلاف الراوي يرويها عن الإمام عليه السلام مباشرة، ونقل عن هؤلاء جيل آخر من الرواة وهكذا حتى وصلت الى المتأخرين كالشيخ الكليني والمفيد وإبن قولوليه وغيرهم، وكل هؤلاء نقلوا روايته الكثيرة عنه عليه السلام بلا واسطة مما يعني أنَّ هذه الروايات في كتب حريز كانت كذلك، وأما إحتمال أنَّ كل هذه الروايات موجودة في كتبه مع الواسطة وأنَّ من نقل عنه نقلها بدون واسطة إشتباهاً أو غفلة فهذا إحتمال بعيد جداً فإنَّ ذلك قد يصح في مورد أو موردين وبالنسبة الى شخص أو شخصين وأما مع كثرة الروايات وكثرة الرواة الذين ينقلون عنه بل كونهم من أجلاء الطائفة ومشايخها فلا يكون إحتمال الغفلة أو الإشتباه عقلائياً، هذا إذا فرض أنَّ هؤلاء أو بعضهم أخذوا رواياته من كتبه وأما إذا كان مستندهم السماع من مشايخهم وهكذا حتى يصل الى حريز فالأمر أوضح.
والحاصل أنَّ كل ما تقدم يجعلنا نطمئن بأنَّ شهادة يونس لا تحلو من أحد أمرين إما أن تكون شهادة حدسية وإما أن يكون قد عرض عليها التحريف والتصحيف فلا تكون مانعة من العمل بروايات حريز عن الإمام الصادق عليه السلام بلا واسطة.
ويحتمل في منشأ الحدس هو أنَّ الإمام الصادق عليه السلام حجبه مدة من الزمن لعدم رضاه بما صدر منه في بلاده.
هذا تمام الكلام في سند الحديث.
البحث الدلالي
الكلام في دلالة حديث الرفع يقع في عدة مقامات:
المقام الأول في كفية الإستدلال بالحديث على البراءة
ورد في تقريرات السيد الخوئي قده تقريب الإستدلال بالشكل التالي:
أنَّ الإلزام المحتمل وجوباً كان أو تحريماً إذا لم تقم حجة على ثبوته كان داخلاً في ما لا يُعلم فهو مرفوع ظاهراً بمقتضى الحديث حتى إذا كان ثابتاً في الواقع، وسيأتي أنَّ الرفع الظاهري معناه هو رفع وجوب الإحتياط من ناحية التكليف المحتمل، وذلك في قبال من لا يقول بالبراءة فالتكليف المحتمل يجب الإحتياط من ناحيته، فيثبت بحديث الرفع التأمين من ناحية التكليف المحتمل من دون أن يدل على رفع التكليف الواقع وإنما يقول حتى إذا كان التكليف ثابتاً في الواقع فأنت مأمون من ناحيته ولا يجب عليك الإحتياط وهو معنى البراءة.
وأشكل عليه بأنَّ هذا التقريب يتوقف على:
أولاً أن يكون المراد من الموصول في فقرة (ما لا يعلمون) هو التكليف الإلزامي أو الأعم منه ومن الموضوع الخارجي، وأما إذا كان المراد منه خصوص الموضوع الخارجي فلا يتم الإستدلال، وسيأتي تحقيق ذلك.
وثانياً أن يكون الرفع للتكليف المشكوك رفعاً ظاهرياً ويون المقصود منه هو رفع وجوب الإحتياط من ناحية هذا التكليف المشكوك، في حين أنَّ الرفع كما يمكن أن يكون رفعاً ظاهرياً يمكن أن يكون رفعاً واقعياً، بل لابد من حمله على الرفع الواقعي لأنَّ الرفع الظاهري للتكليف فيه عناية إثباتية والأصل عدمها إذ ليس هو رفعاً للتكليف حقيقة وإنما هو رفع لوجب الإحتياط من ناحيته، فقولنا: (رفع التكليف) فيه تجوز وعناية إثباتية بخلاف ما لو قلنا أنَّ الرفع واقعي فلا تجوز فيه لأنه على هذا التقدير يكون رفعاً لنفس التكليف وأما على الأول فيكون رفعاً لوجوب الإحتياط من ناحية التكليف المشكوك وليس رفعاً لنفس التكليف المشكوك، فإسناد الرفع الى التكليف مع كون الرفع ظاهرياً ليس إسناداً حقيقياً لأنَّ المرفوع حقيقة هو وجوب الإحتياط.
وبعبارة أوضح إنَّ الحديث ظاهر في أنَّ الرفع يتعلق بالإسم الموصول (ما) فلابد أن يكون المرفوع هو ما يراد من الإسم الموصول، والإستدلال يقول أنَّ المراد منه هو التكليف الإلزامي والتكليف غير المعلوم هو التكليف الواقعي فيكون هو المرفوع، فيكون الإلتزام بأنَّ الرفع ظاهري خلاف ظاهر الحديث.
فبناءً على الرفع الظاهري لا بد من إرتكاب المسامحة والعناية إما في الإسناد وإما في نفس الرفع، بخلاف البناء على الرفع الواقعي للتكليف المشكوك.
والجواب عنه:
أنَّ العناية لابد منها حتى مع القول بالرفع للحكم الواقعي فلا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر من هذه الجهة، أما العناية التي تلزم من حمل الرفع على الرفع الظاهري فقد تقدمت، وأما العناية التي تلزم بناءً على حمل الرفع على الرفع الواقعي فهي تعني التكليف الواقعي لا وجود له في ظرف الشك فيه وهذا يعني أنَّ التكاليف الواقعية مختصة بالعالمين بها، وهذا محال كما ثبت في محله مع تسليم إشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بلا خلاف في ذلك، فلابد من القول أنَّ المعقول من رفع التكليف الواقعي في صورة الجهل هو أنَّ العلم بالجعل أُخذ في موضوع المجعول، بناءً على التمييز بينهما فإنَّ المجعول هو الذي يكون متقوماً بتحقق الموضوع خارجاً وتحقق شرائط التكليف خارجاً، وأما قبل تحقق ذلك فالجعل ثابت بنحو القضية الحقيقية والشارع أثبت فيها الحكم على تقدير تحقق الموضوع ففي قوله تعالى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ﴾ الحج ثابت على تقدير تحقق الإستطاعة وهو الجعل وبتحققها يصبح هذا الوجوب فعلياً وهو المجعول ويكون موجباً للعقاب على مخالفته، فإذا أخذنا العلم بالجعل في موضوع المجعول بأن قلنا أنَّ التكليف لا يصبح فعلياً إلا في حق العالم بالجعل كما تشير إليه الروايات في مسألة التقصير والإتمام (..إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفُسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه.) وهي تشير الى العلم بالجعل، ومفهومها إذا لم تقرأ عليه آية التقصير - أي كان جاهلاً بالجعل - فلا تجب عليه الإعادة، وهذا يعني أنَّ المجعول لا يكون فعلياً إلا في حق العالم بالجعل، وهذا معنى معقول لرفع التكليف الواقعي عند الجهل ولا تلزم منه المحاذير المتقدمة وغيرها.
وإنما المعقول أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول فيكون المقصود من (ما لا يعلمون) هو الجعل وما هو مرفوع هو المجعول لا الجعل لأنَّ رفع الجعل يعني النسخ والحديث ليس في مقام النسخ بلا إشكال بل هو في مقام تعيين المجعول، إذن كل منهما يلزم منه عناية.
ويضاف الى ما تقدم في مقام تأييد تقريب الإستدلال هو أنَّ مناسبات الحكم والموضوع تُعين لزوم حمل الرفع على الرفع الظاهري في قبال الرفع الواقعي ويُستدل على ذلك بوجهين:
الأول أنَّ الظاهر من (رفع عن أمتي) الإمتنان فلابد من الإلتزام بأنَّ المرفوع هو المقدار الذي يكون في ثبوته خلاف الإمتنان ويكون رفعه إمتناناً وهذا المقدار الذي يكون كذلك هو عبارة عن وجوب الإحتياط لأنَّ في رفعه إمتنان وتوسعة على الأمة وفي ثبوته خلاف الإمتنان، فيكون هو المرفوع ويكون الرفع رفعاً ظاهرياً للتكليف الواقعي المشكوك، وأما الرفع الواقعي فرفعه ليس فيه إمتناناً على الإمة لأنَّ ثبوته في حال الجهل به ليس فيه خلاف الإمتنان حتى يكون في رفعه الإمتنان.