الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/08/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني

كان الكلام في رواية حريز عن الإمام الصادق عليه السلام بلا واسطة، وتقدم الحديث عن القرائن التي تدعم شهادة يونس بأنَّ حريزاً لا يروي عن الإمام بلا واسطة إلا حديثاً أو حديثين، وكان من جملة هذه القرائن ما ذكره الشيخ إبن إدريس في مستطرفات السرائر من روايات إستطرفها من كتاب حريز في الصلاة - وهو كتاب المعروف ومشهور في زمان الأئمة عليهم السلام - وليس فيها ولا رواية يرويها مباشرة عن الإمام الصادق عليه السلام.

وبالمراجعة تبين أنَّ إبن إدريس ذكر 24 رواية إستطرفها من كتاب حريز، ومعظمها رواها بالواسطة عن الإمام الباقر عليه السلام، ولا توجد فيها رواية عن الإمام الصادق إلا الحديث رقم 14وهو مروي عنه عليه السلام بواسطة أبان إبن تغلب، وكذا الحديث رقم 15، وأما الباقي فهو من روايات حريز عن الباقر عليه السلام بواسطة زرارة أو محمد بن مسلم أو الفضيل أو أبو بصير، لكنَّ هذا لا يُشكل قرينة على أنَّ جميع ورواياته الموجودة في كتاب الصلاة هي كذلك إذا إلتفتنا الى أمور:

الأول: أنَّ ما ذكره اشيخ إبن إدريس هو مقدار قليل جداً من رواياته الموجودة في كتابه (الصلاة).

الثاني: أنَّ الشيخ إبن إدريس إستطرفها وانتخبها من مجموع ما في الكتاب.

الثالث: أننا نعلم أنَّ ما يرويه حريز بالواسطة عن الإمام الصادق عليه السلام يبلغ أضعاف ما يرويه عنه بلا واسطة.

الرابع: أنَّ الشيخ إبن إدريس استطرف ما ذكره في السرائر من كتاب واحد لحريز وهو كتاب (الصلاة) فهو لو سلَّمنا يكشف على كون ذلك الكتاب كذلك، ولا يكشف عن كون جميع كتبه هي كذلك، وقد ذكر النجاشي وكذلك الشيخ له كتب أخرى غير كتاب (الصلاة) الذي نقل عنه الشيخ إبن إدريس، فمن الصعب جداً أن يكون ما في السرائر قرينة مؤيدة لشهادة يونس.

والحاصل إنَّ إبن إدريس لم يذكر فيما استطرفه إلا رواية واحد عن الإمام الصادق عليه السلام بالواسطة فهل يُعد ذلك قرينة على أنَّ رواياته عنه عليه السلام في ذلك الكتاب فضلاً عن غيره من كتبه مروية عنه مع الواسطة أيضاً؟!

وأما القرائن المعاكسة لشهادة يونس فهي:

الأولى: إنَّ من جملة روايات حريز عن الإمام الصادق عليه السلام روايات لا يمكن فيها بحسب ظاهر النص فرض وجود الواسطة، وهي الروايات الصريحة في أنه سمعها من الإمام عليه السلام وهي الواردة بلسان: سمعته، رأيته، قلت له، ونحوها وهي عديدة، وقد أحصينا من ذلك 17 رواية من الروايات التي يرويها عن الإمام الصادق مباشرةً كلها غير قابلة للتأويل نذكر نماذج منها:

    1. التهذيب ج5 ص 123 الحديث 402:

(وعنه - أي عن موسى بن القاسم - عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يُطاف به ويُرمى عنه؟ قال فقال: نعم إذا كان لا يستطيع.)

وسندها صحيح، وهي صريحة في سؤاله الإمام عليه السلام مباشرة.

    2. وفي الجزء نفسه ص307 الحديث 1050:

(موسى بن القاسم عن حماد بن عيسى عن حريز قال سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن محرم غطى رأسه ناسياً، قال: يلقي القناع عن رأسه ويلبي ولا شيء عليه.)

    3. وكذا فيه في الصفحة 332 الحديث 1143:

(موسى بن القاسم عن عبد الرحمن عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام في المحرم ينسى فيقلم ظفراً من أظافيره فقال: يتصدق بكف من الطعام، قلتُ: فاثنين؟ قال: كفين، قلتُ: فثلاثة؟ قال: ثلاثة أكف كل ظفر كف حتى تصير خمسة فإذا قلم خمسة فعليه دم واحد خمسة كان أو عشرة أو ما كان.)

وهي صريحة في أنه يتحدث مع الإمام عليه السلام مباشرةً.

    4. وكذا في نفس الجزء في الصفحة 375 الحديث 1306:

(وعنه - أي عن موسى بن القاسم - عن حماد بن عيسى عن حريز قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن محرم أصاب صيداً أيأكل منه المحل؟ فقال: ليس على المحل شيء إنما الفداء على المحرم.)

    5. وكذا فيه في الصفحة 446 الحديث 1555:

(وعنه عن عبد الرحمن عن حماد عن حريز قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الطواف بغير أهل مكة ممن جاور بها أفضل أو الصلاة؟ فقال: الطواف للمجاورين أفضل، والصلاة لأهل مكة والقاطنين بها أفضل من الطواف.)

هذا كله في الجزء الخامس فقط، وفي غيره ورد التعبير بـــــ (رأيته، سمعتُ منه) وكل ظاهرة بل تكاد أن تكون صريحة في أنه يروي عنه عليه السلام مباشرة، ومن ذلك ما في بصائر الدرجات والمحاسن والخصال والكافي وتفسير علي بن إبراهيم القمي.

والنتيجة: أنَّ هناك ثلاثة عشر رواية تامة سنداً، وفيها روايتان يرويهما يونس عن حريز وهي الحديث الأول والخامس بحسب إحصائنا.

القرينة الثانية: إنّ شهادة يونس التي نقلها الكشي إما أن تكون حسية أو حدسية، والثانية غير معتبرة حتى إذا كان الراوي ثقة، وأما الأولى فهي إما إن تستند الى تصريح حريز بعدم روايته عن الإمام إلا حديثاً أو حديثين ووصل هذا التصريح الى يونس فنقله لنا، وإما أن تستند الى الإطلاع على أحوال حريز ورواياته، وهذا الإطلاع إما أن يكون من خلال المعاشرة التامة معه طيلة حياته العلمية وإما أن يكون من خلال مراجعة يونس لجميع رواياته، فهذه ثلاثة إحتمالات - التصريح والمعاشرة والمراجعة - في إستناد الشهادة الحسية، فنقول:

أما التصريح فهو بعيد جداً لأنه لو كان لبان ولعُرف عنه ولما إختص به يونس وخفي عن غيره خصوصاً حماد بن عيسى الذي روى معظم رواياته، مع ملاحظة أنَّ يونس لا يروي عنه إلا روايتين كما سيأتي.

ثم كيف يمكن فرض هذا التصريح عن حريز والحال أنَّ الرواة عنه كحماد بن عيسى ومن بعدهم من الطبقة رووا عنه الروايات الكثيرة التي يروي فيها عن الإمام عليه السلام مباشرة، هذا لا ينسجم مع تصريحه المفترض؟!

فهل غفلوا عن ذلك أو لم يهتموا بالأمر أو أنَّ التصريح لم يصلهم وإنما وصل الى خصوص يونس بن عبد الرحمان؟

هذه كلها إحتمالات بعيدة جداً، مع العلم أنّ يونس لم يرو عن حريز إلا روايات قليلة جداً إذا قورنت بما رواه غيره كحماد بن عيسى، بل هي قليلة في حد نفسها.

والحاصل كيف يمكن الجمع بين تصريح حريز بأنه لا يروي عن الإمام إلا حديثاً أو حديثين وبين ما ثبت بطرق معتبرة أنه أخبرَ عن سُماعه عنه!

وبعبارة أخرى إنَّ التعارض يحصل بين شهادة يونس بأنَّ حريزاً لم يسمع منه إلا حديثاً أو حديثين وبين شهادة من روى عن حريز في هذه الروايات بأنّ حريزاً قال له أنه سمع من الإمام قال كذا، أو قال أنَّ الإمام أجابه بكذا ونحوها، وخصوصاً حماد بن عيسى فإنه الراوي لمعظم هذه الروايات، ولماذا تقدم شهادة يونس على شهادة حماد بأنه روى كل هذه الروايات، مع ملاحظة أنَّ الذين رووا عنه هم أكثر عدداً وأكثر التصاقاً ومعرفة بحريز من يونس بن عبد الرحمان؟!

ويضاف الى ذلك ما ذكره النجاشي في ترجمة الكشي، قال: (.. له كتاب الرجال، كثير العلم، وفيه أغلاط كثيرة..)[1] .

ولا نريد هنا أن نجعل نقل الكشي ما قاله يونس من أغلاط الكتاب، وإنما هو نقل ما قاله يونس، نعم يحتمل أنه من إغلاط الكتاب باعتبار التصحيف والتحريف في نقل الرواية ولعل النجاشي يُشير الى هذا، كما طُرح هذا الإحتمال على لسان المحققين، وذلك بأن يكون بدل قول يونس:

(لم يسمع حريز عن أبي عبد الله عليه السلام إلا حديثاً أو حديثين) عبارة (لم أسمع من حريز) أي يونس لم يسمع من حريز إلا حديثاً أو حديثين، وهذا ما يشهد به التتبع فبعد مراجعة المعجم للسيد الخوئي قده تبين أنَّ يونس روى عن حريز بعنوان (يونس) روايتين في الكافي ج1 فضل العلم الباب 19الحديث19، وفي الجزء 7 من كتاب الحدود الباب 3 الحديث 4.

وروى عنه بعنوان (يونس بن عبد الرحمن) رواية في التهذيب في10 ص27، والحديث الأول فيه (يونس عن حريز عن زرارة) والحديث الثاني هو الحديث الخامس في القائمة المتقدمة، والحديث الثالث في التهذيب هو نفسه أيضاً.

والخلاصة: إنَّ مجموع ما وصل إلينا من رواية يونس عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام عبارة عن حديثين، ولعل هذا هو الموجود في أصل الكتاب، ولذا أبقاه الشيخ كما هو حينما إختار من الكتاب، ثم حدث فيه التحريف والتصحيف بعد ذلك، وإلا فمن البعيد أن يكون الموجود فعلاً من الرواية هو الموجود في الأصل - أي عبارة (لم يسمع حريز) - الذي إختار منه الشيخ وهذبه على ما قيل وأبقاه كما هو والمفروض أنه لا يرى صحة ذلك! وذلك لأنَّ عمل الشيخ بخلاف ذلك فإنه يروي في التهذيبين روايات كثيرة عن حريز عن الإمام عليه السلام مباشرة ولا يُعلق عليها ولا يتوقف فيها بل يستدل بها في كتبه الفقهية وفي التهذيبين.

وأما إحتمال عدم إلتفات الشيخ الى شهادة يونس وغفلته عن عبارته فبعيد جداً باعتبار أنَّ الشيخ أملى ما إختاره من الكتاب على طلابه في النجف بعد هجرته من بغداد كما ذكره السيد بن طاووس في فرج المهموم ص130 نقلاً عن خطبة نسخة الإختيار الواصلة إليه.

ويضاف الى ذلك أنَّ وثاقة حريز وصحة شهادة يونس يستلزمان أن تكون جميع روايات حريز عن الإمام الصادق عليه السلام بالواسطة عدا حيث أو حديثين، وهو غير صحيح لأنَّ جماعة ممن نقل عن حريز نقلوا عنه روايات تختلف قلة وكثرة بإختلاف الراوي يرويها عن الإمام عليه السلام مباشرة مثل: أبو أيوب الخزاز وعلي بن رئاب وابن مسكان وأبان وحماد بن عيسى وسليم الفراء وعبد الله بن المغيرة وغيرهم كثير، وقد نقل عن هؤلاء عشرات الرواة من أمثال: الحسين بن سعيد وعلي بن إبراهيم والصفار وأحمد بن محمد بن عيسى وموسى بن القاسم وغيرهم كثير، وهكذا حتى وصلت الى المشايخ الثلاثة الكليني والصدوق والطوسي، فهل يحتمل وجود واسطة محذوفة في جميع هذه الروايات لم يلتفت إليها كل هؤلاء ؟ هذا مستبعد جداً بحساب الإحتمالات.

 


[1] رجال النجاشي، النجاشي، أبو العبّاس، ج1، ص372.