44/08/13
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني
كان الكلام في رواية حريز بن عبد الله السجستاني عن الإمام الصادق عليه السلام، وذلك لأنَّ حديث الرفع الذي يرويه الشيخ الصدوق في التوحيد والخصال هو عن حريز عنه عليه السلام، ومنشأ التشكيك في روايته هو ما نقله الكشي في رجاله عن يونس أنه قال: (لم يسمع حريز بن عبد الله من أبي عبد الله - عليه السلام - إلا حديثاً أو حديثين) وهذا النقل ذكر الكشي له سنداً فلابد من النظر فيه فإن لم يكن تاماً فلا إشكال إذ لا يكون معارضاً الروايات الكثيرة التي ظاهرها رواية حريز عن الإمام الصادق عليه السلام، وإن تم سنداً فتتحقق المعارضة، والسند هو هذا[1] :
(محمد بن مسعود) والمقصود به العياشي وهو ثقة (قال حدثني محمد بن نصير) وهو ثقة أيضاً هو وأخواه إبراهيم وحمدويه أبناء نصير وكلهم ثقات (قال حدثني محمد بن عيسى) والظاهر أنه إبن عبيد العبيدي (عن يونس) أي إبن عبد الرحمان، وهؤلاء كلهم ثقات، حتى محمد بن عيسى الذي فيه كلام لكننا أثبتنا وثاقته في محله، فالظاهر أنَّ الرواية معتبرة سنداً.
نعم يظهر من بعضهم أنَّ من يروي عنه محمد بن نصير في هذه الرواية ليس هو محمد بن عيسى وإنما هو محمد بن قيس، وعلى هذا الأساس ناقشوا في الرواية من جهة كون محمد بن قيس مشتركاً بين الثقة وغيره، ولذا بنى المستشكل على ضعف الرواية وعدم ثبوتها لأنَّ في سندها من هو مردد بين محمد بن عيسى وبين محمد بن قيس، وعلى الثاني هو مردد بين الثقة وغيره.
والسيد الخوئي في معجمه ج5 ص232 عندما نقل كلام الكشي جعل محمد بن قيس نسخة بدلاً من محمد بن عيسى، وكذلك في ج15 ص316 في ترجمة محمد بن نصير.
ولكن يبدو أنَّ الصحيح هو محمد بن عيسى الموافق لما في رجال الكشي المطبوع، وذلك باعتبار أنَّ محمد بن نصير روى عن محمد بن عيسى روايات كثيرة ومعروفة، وفي رجال الكشي فقط روى عنه أكثر من عشرين مورداً، كما أنَّ رواية إبراهيم وحمدويه أخوي محمد بن نصير عن محمد بن عيسى كثيرة أيضاً، وهذا يُشكل قرينة على أنَّ المقصود في المقام هو محمد بن عيسى.
وبعد أن ذكر السيد الخوئي قده وجود نسخة بدل ذكر أنَّ (الذي أظن أنَّ محمد بن قيس محرف محمد بن عيسى كما هو كذلك في بعض النسخ)[2]
كما لا يمكن أن يكون المراد منه محمد بن قيس الثقة المعروف الذي يروي روايات الحدود عن أمير المؤمنين عليه السلام، وهو واضح لتقدمه وهذا شخص آخر متأخر، فإذا أمكن تحديده بالثقة فلا إشكال، وإن لم يمكن ذلك بقيت هذه خدشة في الرواية يصعب تجاوزها، أو نجزم بأن المقصود هو محمد بن عيسى كما هو الموجود في بعض نسخ رجال الكشي.
وأما مجرد أنَّ محمد بن نصير يروي بالواسطة عن محمد بن عيسى كثيراً فلا يُشكل ذلك قرينة إذ يمكن أن يروي عن محمد بن قيس بالواسطة أيضاً.
إشكال آخر:
وهناك مشكلة في السند من جهة أخرى وهي في أصل رواية محمد بن عيسى عن يونس، فإنَّ فيها كلام منشؤه هو أنَّ النجاشي له عبارتان: إحداهما في ترجمة محمد بن عيسى حيث نقل عن الشيخ الصدوق عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد أنه قال: (ما تفرَّد به محمد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه)[3] .
والأخرى ما ذكره في ترجمة أحمد بن محمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة من أنَّ إبن الوليد إستثنى من روايات نوادر الحكمة ما رواه جماعة وعدَّ منهم (محمد بن عيسى بن عبيد بإسناد منقطع)[4] ، ولكن هل يشكل هذا نقطة ضعف في روايتنا؟
يمكن التشكيك في ذلك باعتبار أنَّ محل الكلام ليس رواية أصلاً وليس مأخوذاً من كتب يونس وحديثه، وإنما هو قضية ذكرها يونس، قال الكشي بسنده:
(.. قال حدثني محمد بن عيسى عن يونس، قال: لم يسمع حريز بن عبد الله من أبي عبد الله - عليه السلام - إلا حديثاً أو حديثين)، فيمكن التشكيك في شمول النص الذي ذكره النجاشي لمحل الكلام لأنَّ الظاهر منه هو أنَّ المقصود به الروايات المعروفة التي يرويها محمد بن عيسى عن يونس والتي ترتبط بالأحكام الشرعية وأمثالها، كما أنه ليس إسناداً منقطعاً ليشمله ما ذكره إبن الوليد.
مضافاً الى أنه ليس مما يرويه محمد بن أحمد بن يحيى في نوادر الحكمة حتى يشمله الإستثناء، وإنما هو نقل من الكشي بسنده عن يونس، فالظاهر أنَّ هذا لا يُشكل نقطة ضعف في الرواية، وإنما العمدة في التضعيف هو وجود نسخة فيها محمد بن قيس بدلاً من محمد بن عيسى.
وبناءً على تمامية الرواية سنداً تقع المعارضة بين شهادة يونس بأنَّ حريز لم يسمع عن الإمام الصادق عليه السلام إلا حديثاً أو حديثين وبين الروايات الكثيرة التي روى فيها حريز عن الإمام الصادق عليه السلام مباشرة، وهي كثيرة تزيد على 200 رواية، فإما أن نصدق ما يقوله يونس ونرفع اليد عن ظهور الروايات الكثيرة في رواية حريز عن الإمام الصادق عليه السلام مباشرة، وإما أن نعكس فنصدق الروايات ونكذب ما يقوله يونس في أنَّ حريز لا يروي عن الإمام الصادق إلا حديث أو حديثين.
والقرائن على الأمر الأول - أي صحة ما ذكره يونهي:
1. أنَّ الرواية التي نقلها الكشي - التي تثبت ما قاله يونس - تامة سنداً، ولم يُعلق الكشي عليها بشيء فيظهر منه أنه يرتضي ذلك.
2. أنَّ النجاشي نسب رواية حريز عن أبي عبد الله عليه السلام الى القيل وهذا يُشعر بتمريضه لذلك، ثم نقل بعد ذلك قول يونس.
3. أنَّ العلامة في الخلاصة تردد في ذلك واتخذ موقفاً موافقاً لموقف النجاشي.
4. أنَّ جملة من الروايات الوارد فيها رواية حريز عن أبي عبد الله عليه السلام في بعض المصادر بلا واسطة وردت نفسها في مصادر أخرى مع وجود الواسطة، وعددها 12 رواية.
5. أنَّ الشيخ إبن إدريس أورد في مستطرفات السرائر بضع صفحات من كتاب حريز المعروف في الصلاة ولا يوجد فيها حديث واحد له عن الإمام الصادق عليه السلام، بل تشتمل على تعابير ربما توقع الناظر في توهم أنه يروي عن الإمام عليه السلام مباشرة مع أنَّ الأمر ليس كذلك.
والتعليق على ذلك:
أما الأول فليس من عادة الكشي التعليق على الروايات كما هو الحال عند النجاشي، ولذا لا نستكشف رأي الكشي من عدم تعليقه.
أما الثاني فإنّ النجاشي وإن كان ديدنه التعليق على الروايات التي ينقلها ولم يعلق هنا ولكن الذي يبدو من عبارته هو أنه متوقف في ذلك، وعبارته هي هذه:
(.. قيل: روى عن أبي عبد الله عليه السلام. وقال يونس: لم يسمع من أبي عبد الله [عليه السلام] إلا حديثين. وقيل: روى عن أبي الحسن موسى [عليه السلام]، ولم يثبت ذاك..) فيظهر من عبارته أنَّ روايته عن الإمام الصادق غير ثابتة ولا توحي بأكثر منذ ذلك، فيمكن أن يقال إنه من المتوقفين في ذلك.
وأما الثالث فالعلامة عادة ما يتبع النجاشي في كتابه الخلاصة، ولا يظهر منه تبنيه لهذا الرأي على تقدير تبني النجاشي له، بل الذي يظهر من العلامة من خلال كتبه الإستدلالية عدم توقفه في رواية حريز عن الإمام الصادق عليه السلام، بل لا يظهر توقف فقهائنا من هذه الجهة، ولو كان هذا الكلام تاماً لكانت الرواية مرسلة ولتوقفوا عن الأخذ بها.
وأما الرابع فو تنزلنا وسلًّمنا وجود الواسطة في هذه الروايات، ولكن نقول: إذا قامت القرائن على التحريف فيها وأنَّ الصحيح وجود الواسطة فلا يكون هذا قرينة على أنَّ الباقي من الروايات - مما لم تقم عليه قرينة على التحريف - كلها يرويها بالواسطة ويلزم رفع اليد عن ظهورها والقول بإرسالها!
وعلى أبعد الحدود يقع التعارض بين النقلين فهذه المصادر تقول يرويها بلا واسطة والمصادر الأخرى تقول يرويها مع الواسطة ومع عدم المرجح يتساقطان، وغاية ما ينتجه ذلك هو خروج 12 رواية عن الإعتبار، وأما الباقي فلا موجب لتأثرها بهذه الروايات.
والحاصل أنَّ الأمر في هذه الموارد لا يخلو من إحتمالات:
الأول أن يثبت بعد المراجعة صحة ما في بعض المصادر وخطأ ما في غيره، فنعمل بالصحيح، وهو واضح.
الثاني أن لا يثبت ذلك مع إمكان الإلتزام بكلا النقلين بدعوى عدم المنافاة بين أن يروي حريز عن الإمام الصادق حديثاً بالواسطة ثم يرويه عنه مباشرة أو بالعكس.
الثالث أن لا يثبت ذلك مع فرض عدم إمكان الإلتزام بالنقلين فيحصل التعارض بينهما، والمفروض عدم المرجح فيتساقط النقلان، وهذا لا يعني إلا نقصان عدد الروايات التي ظاهرها رواية حريز عن الإمام بلا واسطة بعدد الروايات التي يروي عنه مع الواسطة، وهذا لا يُعد قرينة على أنَّ سائر الروايات ليس مما يرويه حريز عن الإمام مباشرة بحيث يقال أنها لا تعارض شهادة يونس المتقدمة.
وأما الخامس إنَّ الشيخ إبن إدريس ذكر في مستطرفات السرائر 24 رواية إستطرفها من كتاب حريز، ومعظمها رواها عن الإمام الباقر عليه السلام، ولا توجد فيها رواية مروية عن الإمام الصادق عليه السلام إلا الحديث رقم 14 وهو مروي عنه عليه السلام بواسطة هي أبان بن تغلب، وكذا الحديث الذي بعده، وأما الباقي فهو من روايات حريز عن الإمام الباقر عليه السلام بواسطة زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل وأبي بصير.
وما قيل من أنَّ مستطرفات السرائر لا توجد فيها رواية مباشرة لحريز عن الإمام الصادق عليه السلام صحيح ولكنه لا يُشكل قرينة على أنَّ جميع روايات حريز الموجودة في كتابه كذلك.