الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/08/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الثاني

تقدم أنَّ لحديث الرفع طرقاً متعددة وأنَّ فقرة الإستدلال (ما لا يعلمون) ليست موجودة في جميع الطرق بل في بعضها، وذكرنا أنَّ الشيخ الصدوق رواه في الخصال وفي التوحيد على النحو الذي نقله عنه صاحب الوسائل في الباب 56 من أبواب جهاد النفس الحديث 1:

(محمّد بن علي بن الحسين في (التوحيد) و (الخصال) عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن سعد بن عبدالله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبدالله ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): رفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلوة[1] ما لم ينطقوا بشفة.)[2]

والكلام في هذه الرواية في يقع في طريق الشيخ الصدوق لهذا الحديث، والمعروف بينهم أنَّ الرواية معتبرة سنداً وإن كان فيها أحمد من محمد بن يحيى الذي لم يُنص على وثاقته، وكأنَّ المشهور لا يرى وجود خلل في السند من جهة أحمد من محمد بن يحيى العطار، ولا من جهة أخرى أنَّ حريز بن عبد الله هل يمكن أن يروي عن الإمام الصادق أو لا.

وحتى السيد الخوئي قده صحح الرواية مع أنه يستشكل في وثاقة أحمد من محمد بن يحيى العطار، فقد ذكر وجوهاً ذُكرت لوثاقته وناقش فيها جميعاً، وهي:

الوجه الأول: أنه من مشايخ الإجازة، والظاهر أنَّ الصغرى مُسلَّمة وإنما الكلام في الكبرى.

الوجه الثاني: أنَّ العلامة في الخلاصة ذكرَ في الفائدة الثانية طرق المشايخ الى أرباب الكتب، وذكر طريق الشيخ الصدوق الى عبد الرحمان بن الحجاج، وكذا طريقه الى عبد الله بن أبي يعفور، وحكم بصحة هذين الطريقين مع وقوع أحمد من محمد بن يحيى العطار في هذا الطريق، وهذا يستكشف منه توثيقه له.

الوجه الثالث: توثيق الشهيد الثاني له صريحاً في الدراية، وكذا الشيخ البهائي.

الوجه الرابع: ما ورد في كتاب أبي العباس أحمد بن علي بن نوح السيرافي الى النجاشي الذي نقل نصه في كتابه في ترجمة الحسن بن سعيد الأهوازي، حيث يُستفاد من جواب بن نوح وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطار، قال النجاشي[3] :

(.. وكُتب ابني سعيد كُتبٌ حسنة معمول عليها، وهي ثلاثون كتاباً... الى أن قال:

أخبرنا بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا من طرق مختلفة كثيرة، فمنها ما كَتب إليَّ به أبو العباس أحمد بن علي بن نوح السيرافي، رحمه الله، في جواب كتابي إليه:

"والذي سألتَ تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي، رضي الله عنه فقد روى عنه أبو جعفر أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي، والحسين بن الحسن بن أبان، وأحمد بن محمد بن الحسن بن السكن القرشي البردعي، وأبو العباس أحمد بن محمد الدينوري، فأما ما عليه أصحابنا والمعوَّل عليه ما رواه عنهما - أي عن الحسن والحسين - أحمد بن محمد بن عيسى، أخبرنا الشيخ الفاضل أبو عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري فيما كتب إلي في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال: حدثنا أبو علي الأشعري، أحمد بن إدريس بن أحمد القمي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد بكتبه الثلاثين كتاباً."

وهذا طريق ذكره بن نوح ونقله الى النجاشي وهو: (عن البزوفري عن أبو علي الأشعري أحمد بن إدريس بن أحمد القمي عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد) وهذا طريق صحيح بلا إشكال.

ثم قال بن نوح في كتابه - وهو طريق آخر الى كُتب الحسين بن سعيد -:

(وأخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار القمي قال: حدثنا أبي - أي محمد بن يحيى العطار - وعبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى.)

ثم يقول: (وأما ما رواه أحمد بن محمد بن خالد البرقي..) ويذكر طرقه الى كُتب الحسين بن سعيد التي من طريق البرقي.

والوجه الرابع يقول: إنَّ ظاهر العبارة المتقدمة: (فأما ما عليه أصحابنا والمعوَّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمد بن عيسى) هو أنَّ الطرق المعوَّل عليها عند الأصحاب هي هذان الطريقان اللذان ذكرهما إبن نوح في جواب الى الشيخ النجاشي، وأحدهما يقع فيه أحمد من محمد بن يحيى العطار، فيُستفاد من ذلك أنَّ الأصحاب يعتمدون عليه.

مناقشة وجوه التوثيق:

أما الوجوه الثلاثة الأولى ففيها كلام، ففي الأول هل شيخوخة الإجازة هل تدل على التوثيق أو لا، فيه كلام.

والثاني - وهو توثيق العلامة - فهو من تصحيحات المتأخرين وهي حدسية.

ومثله الثالث فالشهيد الثاني والشيخ البهائي من المتأخرين وتوثيقاتهم إن لم ترجع الى المتقدمين فهي حدسية لا يمكن الإعتماد عليها، وسيأتي التعليق عليه.

والعمدة هو الوجه الرابع، وناقش فيه السيد الخوئي قده بوجهين:

الوجه الأول: إنَّ إعتماد القدماء على رواية شخص لا يدل على توثيقهم إياه لأنَّ ذلك مبني على أصالة العدالة التي لا نبني عليها، وحاصل هذا الأصل هو دعوى أنَّ كل شخص لم يرد فيه قدح وتضعيف فالأصل فيه أن يكون عادلاً، فلا حاجة في توثيق شخص الى النص على وثاقته وعدالته وإنما يكفي عدم القدح فيه، فاعتماد القدماء على شخص لا يدل على توثيقهم إياه بل يحتمل أنه من جهة البناء على أصالة العدالة.

الوجه الثاني: إنَّ جواب إبن نوح إنما يتم الإستدلال به لإثبات وثاقة أحمد من محمد بن يحيى العطار فيما إذا كان الطريق منحصراً برواية أحمد من محمد بن يحيى، لكنه ليس كذلك لأنه ذكر طريقين، والطريق الأول لا إشكال في صحته، فلعلهم اكتفوا به لإثبات ما يرويه أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد، ولعل ذكرهم الطريق الثاني من باب التأييد، ومعه لا يمكن إستكشاف إعتمادهم على الطريق الثاني وبالتالي اعتمادهم على أحمد من محمد بن يحيى العطار الذي يعني إثبات وثاقته.

مناقشة ما ذكره السيد الخوئي قده في مناقشة الوجه الرابع:

الذي يمكن أن يقال في المقام أنَّ التأمل في كتاب إبن نوح يجد بأنه دال على أنَّ ما عليه الأصحاب وما يعولون إنما هو رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد دون غيره ممن روى عنه.

كما يظهر من الكتاب أنَّ رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد التي عوَّل عليها الأصحاب لها طريقان أحدهما فيه أحمد من محمد بن يحيى العطار، والمُستظهر من العبارة هو أنَّ كِلا الطريقين معتمد عليه عند الأصحاب ولا داعي لتخصيص الإعتماد والتعويل بخصوص الطريق الأول.

أما الوجه الأول الذي ذكره السيد الخوئي قده فلا وضوح في بناء القدماء على أصالة العدالة حتى يحتمل ذلك في إعتمادهم على شخص لا يكون ذلك من جهة ثبوت وثاقته عندهم، وهذا المعنى نُسِب الى الشيخ الطوسي في بعض كلماته، وهي إنصافاً ظاهرة في ذلك، لكن هذا الظهور معارض بكلمات أخرى له بخلاف ذلك وهي صريحة في أنه لا يعتمد على أصالة العدالة، وأنَّ العدالة والوثاقة لا تثبت إلا بدليل ينص على ذلك.

بل لهذا الكلام تالٍ فاسد وهو التوقف في توثيقات المتقدمين على الشيخ النجاشي الذين ينقل عنهم فلعلهم كانوا يعتمدون على أصالة العدالة في التوثيق، وهذا يستلزم التشكيك في توثيقاتهم والتوقف في كثير منها.

وأما الوجه الثاني فهو يعني أنَّ المعوَّل عليه عند الأصحاب هو خصوص الطريق الأول وهذا خلاف ظاهر العبارة، فإنها ظاهرة في أنَّ ما عليه الأصحاب وما يعولون عليه هو ما يرويه أحمد بن محمد بن عيسى عنهما، وظاهر ذلك هو أنَّ كل ما يكون رواية لأحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن والحسين وبأي طريق كان فهو معوَّل عليه، ولا قرينة على تخصيصه بالطريق الأول دون الطريق الثاني، هذا بحاجة الى قرينة وتنبيه عليه، ويشهد لذلك أنَّ هذه الإحتمالات لا تأتي إذا كان أحمد من محمد بن يحيى العطار مُسلَّم الوثاقة.

والحاصل لا يتميز الطريق الأول عن الطريق الثاني إلا بتقدم ذكره ومجرد ذلك لا يوجب إختصاص الإعتماد والتعويل عليه وكون الثاني للتأييد، والنتيجة أنَّ العبارة ظاهرة في إعتماد الأصحاب على هذا الطريق وتعويلهم عليه، وهو دليل على التوثيق، فإنَّ الإعتماد على الطريق غير الإعتماد على الرواية التي تحتمل الإعتماد على القرائن، وأما الإعتماد على الطريق فيعني توثيق رجاله، كما أنَّ إحتمال بناؤهم في التوثيق على أصالة العدالة منفي بما تقدم.

الوجه الخامس:

هناك طريق آخر لإثبات وثاقة أحمد من محمد بن يحيى العطار يمكن أن يكون طريقاً خامساً ذكره بعض المحققين، وحاصله: إنَّ الشيخ الطوسي في الجزء الأول من الإستبصار نقل روايات كثيرة، والمقطع الأول من سندها هو هذا:

(أخبرنا الحسين بن عبيد الله - أي الغضائري - عن أحمد من محمد بن يحيى عن أبيه)

واقتصر على ذكر هذا السند فحسب، فلو لم يعتقد الشيخ الطوسي بشاهدة حسية وثاقة الحسين بن عبيد الله الغضائري ووثاقة أحمد من محمد بن يحيى العطار لكان من المستبعد جداً أن يقتصر في كل هذه الروايات على هذا السند مع امتلاكه لما لا شك في صحته من سند الى محمد بن يحيى العطار- أي الأب - وهو هذا:

(الشيخ المفيد عن إبن قولويه عن الكليني عن محمد بن يحيى العطار)

وهذا طريق لا مجال لتخيل الخدشة فيه، ومع ذلك يتركه ويذكر الطريق السابق الى تلك الروايات الكثيرة، إنَّ هذا يعني أنَّ الشيخ الطوسي له دليل واضح على وثاقة أحمد من محمد بن يحيى العطار.


[1] كذا في الوسائل، وفي هامشه: في نسخة: الخلق (هامش المخطوط).وفي المصدرين: (الخلق)، التوحيد ص344 باب الإستطاعة الحديث 24، والخصال ص455، باب التسعة الحديث 9.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج15، ص369، أبواب جهاد النفس، باب56، ح1، ط آل البيت.
[3] رجال النجاشي، النجاشي، أبو العبّاس، ج1، ص58.