الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/08/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ السُّنة الشريفة/ الحديث الأول والثاني

تبين مما تقدم أنَّ الآيات الشريفة التي إستُدل بها على البراءة وإن دلَّ بعضها عليها إلا أنَّها تدل على براءة بمفاد القاعدة العقلية (قبح العقاب بلا بيان) مما يجعلها مورودة لأدلة الإحتياط، فكأن الآيات ناظر الى نفس مفاد القاعدة العقلية أي لا عقاب عند عدم البيان مطلقاً، من هنا يمكن القول أنَّ هذه الآيات تصلح أن كون منبهات على صحة مبنى قبح العقاب بلا بيان.

الإستدلال على البراءة الشرعية بالسُّنة في الشريفة:

الرواية الأولى: حديث الإطلاق

وهو ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)

إستُدل به على البراءة بتقريب أنَّ الحديث يدل على السعة والإطلاق والتأمين مع عدم ورود النهي، والمقصود بالورود هو الوصول، فيدل على التأمين مع عدم الوصول وهو معنى البراءة، بل الشيخ قده جعل هذه الرواية أوضح الروايات التي إستُدل بها على البراءة.

وقد إعترض على هذا الإستدلال بإعتراضات:

الأول الإعتراض السندي، فهذه الرواية رواها الشيخ الصدوق مرسلاً بعنوان (رُوي عن الإمام الصادق) ولم يُعبر بـــ (قال) حيث توجد محاولة لتصحيح مراسيله إذا عبَّر عنها بعنوان (قال)، والظاهر أنه لا مجال للقول بتماميتها سنداً حتى إذا قلنا بتصحيح مراسيله بعنوان (قال)، ومن هنا يختلف هنا الموقف بإختلاف المباني حيث يقول جماعة بانجبار الضعف السندي بعمل المشهور، ولكنه غير واضح في الصغرى إذ لا يُعلم أنَّ من يلتزم بالبراءة يستند الى هذه الرواية، كما أنَّ كبرى الجابرية لا نراها تامة.

الإعتراض الثاني ما ذكره المحقق الخراساني قده في الكفاية، وحاصله:

إنَّ الورود في الرواية ليس ظاهراً في الوصول، بل يصدق حتى على الصدور، فيصدق مثلاً (لحم الأرنب ورد فيه نهي) أي ورد نهي واقعي فيه وهو بمعنى الصدور، ولا يلازم الوصول، والمعنى على هذا هو أنَّ الإشياء كلها مطلقة وأنتم في سعة وتأمين حتى يصدر نهي، فتثبت التأمين مع عدم الصدور ولا يثبت التأمين مع عدم الوصول حتى مع الشك في الصدور كما هو المطلوب، فالبراءة المستفادة من الآية مشروطة بعدم الصدور.

ولا يمكن التمسك بالرواية عند الشك في الصدور لإحراز التأمين لأنه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له، والتمسك بالدليل لإثبات حكمه فرع إحراز موضوعه وأما مع الشك في الموضوع فلا يمكن التمسك بالدليل وهو غير جائز بالإتفاق، فكيف يُتمسك بالرواية لإثبات البراءة مع الشك في الصدور هذا من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له وهو غير جائز، فلا يصح الإستدلال بالرواية.

وأُجيب عنه:

أولاً بأنه لابد من حمل الورود في الرواية على ما يساوق الوصول حتى مع تسليم عدم الظهور في الوصول لما سيأتي.

وثانياً بما ذكره المحقق الأصفهاني قده من أنَّ الورود ظاهر عرفاً فيما يساوق الوصول، فهنا دعويان.

أما الدعوى الثانية فاستُدل عليها بأنَّ الورود سنخ معنى يقتضي وجود طرف يضاف إليه ويتعلق به، ومن هنا لا يساوق الصدور الذي لا يقتضي ذلك ولا يطلق عليه الورود، ففي الورود هناك وارد ومورود تقول (فلان ورد الماء) فالماء طرف في الورود، والمورود في المقام هو المكلف فيكون مساوقاً للوصول، فمعنى (ورد فيه نهي) هو أن يرد على المكلف نهي أي وصل إليه فيتم الإستدلال بالرواية.

قد يعترض على هذا الجواب إنَّ الطرف الذي يقتضيه الورود هو موضوع الحكم لا المكلف حتى ينتج الوصول، فإذا كان المشكوك هو حكم هو أكل لحم الأرنب فيكون طرف الإضافة موضوع الحكم أي أكل لحم الأرنب لا المكلف، وعليه لا يكون مساوقاً للوصول.

وجوابه: إنَّ موضوع الحكم هو محل للوارد لا موروداً ولذا لا يصح أن يقال عن الموضوع أنه (ورده نهي) وإنما يقال (ورد فيه نهي) وعليه فالورود مفهوماً بحاجة الى المكلف يتعلق به فيكون مساوقاً للوصول بخلاف الصدور فإنه مفهوماً ليس بحاجة الى مكلف كما هو واضح.

ومنه يظهر إنَّ ما رود في تقريرات الشيد الشهيد قده من الإعتراض على ما ذُكر من أنه: "لا مُعين لأنَّ يكون الملحوظ وفود النهي على المكلف بل لعل الملحوظ وفوده على الشيء نفسه كما يناسبه قوله عليه السلام (يرد فيه) فالنهي وارد على المادة والمادة هي المورود عليه"[1]

فجوابه إنَّ هذا ليس وارد على الجواب لأنَّ المدعى أنَّ المفهوم الورود يفترض وجود ووارد ومورود عليه ومن الواضح أنَّ المادة وموضوع الحكم ليس موروداً عليه فلا يصح أن يقال أنَّ النهي ورد على المادة، فلابد من تقدير مورود عليه وهو المكلف.

نعم يمكن دفع هذا الجواب بوجه آخر وهو يقال: إنَّ إفتراض الورود على المكلف لا يلازم إرادة الوصول من الورود بل ينسجم مع الصدور أيضاً وذلك بإعتبار إنَّ الرواية إذا كانت ناظرة الى مرحلة الجعل فالنهي فيه يرد على المكلف ولكنه المكلف المقدَّر الوجود وهو المناسب لجعل الحكم على نهج القضية الحقيقية، وهذا لا يساوق الوصول بالمعنى المراد إثباته، وبهذا نحافظ على معنى الورود وأنه يقتضي طرفاً يرد عليه وفي ذات الوقت لا ينتج الوصول.

والحاصل إنَّ ما يثبت بما ذكره المحقق الأصفهاني قده هو تعلق الورود بالمكلف وأما أنَّ تعلقه به يستلزم الوصول إليه وعلمه بالنهي حتى يكون المراد الوصول فلا دليل عليه.

ثم على تقدير إرادة الوصول من الورود فهل تكون البراءة المستفادة من الحديث معارضة لأدلة الإحتياط أو لا؟

بمعنى أنّ هذه البراءة تكون مورودة لأدلة الإحتياط كالبراءة المستفاد من الآيات الشريفة التي لا تزيد عن مفاد البراءة العقلية التي تكون مقيدة بعدم البيان مطلقاً حتى على الحكم الظاهري، فتكون أدلة الإحتياط واردة عليها ورافعة لموضوعها، أو تثبت البراءة بنحو تكون معارضة لأدلة الإحتياط وهذا إنما يكون إذا كان موضوعها هو عدم البيان على الحكم الواقعي فقط بينما تدل أدلة الإحتياط على جعل الإحتياط فيتعارضان لأنَّ موضوع كل منهما هو عدم بيان الحكم الواقعي.

والجواب عن هذا السؤال يتوقف على تحقيق أنَّ النهي في الرواية هل يراد به النهي الواقعي أي النهي عن الشيء بعنوانه الأولي أو يراد به الأعم من النهي الواقعي والظاهري، فإذا قلنا بالأول فتحصل المعارضة بينها وبين أدلة الإحتياط وإذا قلنا بالثاني فتكون مورودة لأدلة الإحتياط ولا معارضة، وهنا يقال إنَّ ظاهر الرواية هو الأول أي أنَّ موضوعها هو عدم البيان على الحكم الواقعي ومن هنا تكون معارضة لأدلة الإحتياط وذلك باعتبار أنَّ النهي فيها أضيف الى (الشيء) ويقال أنه ظاهر بورود النهي فيه بما هو شيء أي بعنوانه الأولي.

وبعبارة أخرى ليس المقصود من (حتى يرد فيه نهي) هو حتى يرد فيه نهي بما هو مشكوك حكمه الواقعي فهذه مؤنة تحتاج الى بيان زائد ومع عدمه فالظاهر هو حتى يرد فيه نهي بما هو شيء، فالذي جُعل غاية للبراءة هو النهي عن الشيء بعنوانه الأولي وأنها ترتفع عند ورود النهي في الشيء بعنوانه الأولي، ومع تقييد البراءة بذلك تكون معارضة لأدلة وجوب الإحتياط.

ونكتفي بهذا المقدار من البحث في هذا الحديث، وهناك أبحاث مترتبة على القول بدلالة الرواية على البراءة وحيث توقفنا في دلالتها عليها فلذلك نترك هذه الأبحاث.

الرواية الثانية: حديث الرفع

وهو من أهم الأدلة التي يُستدل بها على البراءة وأخذت حيزاً كبيراً من بحوث العلماء، وهناك كلام في سنده وفي دلالته، أما السند فقد روي في موارد متعددة وبطرق مختلفة، لكن فقرة الإستدلال (ما لا يعلمون) ليست موجود في كل هذه الطرق، فالشيخ الصدوق روى الحديث في الخصال والتوحيد، كما نقله عنه في الوسائل في أبواب جهاد النفس الباب 56 الحديث 1 وسند الشيخ الصدوق هو:

(عن أحمد بن محمد بن يحيى عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام)


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج5، ص36.