الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/08/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الرابعة والخامسة

الآية الرابعة: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [1]

وظاهرها هو أنَّ عدم وجدان هذه المحرمات يكفي في الخروج عن عهدة التكليف الذي لا يجده الإنسان، لأنه تعالى يُعلم نبيه في مقام المُحاجَّة أن يقول إنَّ المحرمات التي التزمتم بها لا أجدها في ما أوحي إليَّ، وكأنَّ هذا يكفي في إثبات عدم الوجود وفي الخروج من عهدتها وعدم ترتب أثر وتبعات على ما إدُعي من المحرمات.

وبعبارة أخرى يُستفاد من الآية أنَّ عدم وجدان التكليف يكفي لإثبات عدم وجوده وبالتالي إثبات التأمين من ناحيته، وعلى الأقل إثباته بالنسبة الى المسؤولية والتبعات المترتبة على مخالفته، وحينئذٍ تدل على البراءة وعدم العقاب وعدم المسؤولية عند عدم وجدان التكليف وهو مفاد البراءة الشرعية.

الإعترضات على الإستدلال بالآية:

الأول: إنَّ الآية لا تتحدث عن عدم وجدان التكليف مطلقاً وبالنسبة الى كل أحد وإنما عن عدم وجدان النبي صلى الله عليه وآله في ما أوحي إليه ما إدُعي من المحرمات، وهذا يكون دليلاً قاطعاً على عدم وجودها، فالآية ليست بصدد إثبات حكم ظاهري عند الشك في وجود التكليف وعدم وصوله الذي نُعبِّر عنه بالبراءة وهو المطلوب في محل الكلام، فعدم وجدان النبي يكون دليلاً قطعياً على عدم هذه التكاليف، فهي تثبت التأمين ولكن تجاه التكاليف التي يقطع بعدم وجودها في الواقع وليس هذا محل الكلام.

وجوابه: إنَّ ما ذُكر بالنسبة الى النبي صلى الله عليه وآله صحيح ولكن ظاهر الآية هو أنَّ الله تعالى أمر نبيه بأن يقول للخصم ﴿لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ وهذا القول إذا كان في مقام الخصومة المُحاجَّة مع من يدعي وجود هذه المحرمات فلا يمكن أن يكون ملزماً لهم بعد إنكارهم نبوته، وإنما الذي يكون مُلزماً لهم هو ما إذا تجرد النبي عن هذه الصفة وتكلم معهم بصفته إنساناً متعارفاً يقول لهم تصلني هذه المحرمات، وهو بهذه الصفة لا يكون عدم وجدانه دالاً على عدم الوجود، وهذا يكفي في نفي التبعات والمسؤولية وإثبات التأمين، فكأنه بصفته إنساناً يقول إنَّ عدم الوجدان يدل على عدم الوجود بمعنى عدم ترتب آثار الوجود الواقعي للتكليف من حيث المسؤولية والإدانة والعقاب، فيثبت التأمين وعدم المسؤولية وهو معنى البراءة.

الإعتراض الثاني: أن يقال سلَّمنا أن النبي تكلم معهم بصفته إنسانا لا بصفته نبياً، ولا يكون عدم وجدانه دليلاً قطعياً على عدم الوجود، لكنه يكون دليلاً قطعياً على عدم صدور هذا التشريع، وبعبارة أخرى لو تنزلنا عن الأول فالبراءة الثابتة بالآية هي عبارة عن التأمين في حال عدم صدور التكليف لا في حال عدم وصوله، والمطلوب هو الثاني أي إثبات التأمين عند عدم وصول التكليف مع إحتمال صدوره، والآية لا تُفيد ذلك.

وجوابه: هو نفس الجواب المتقدم وهو أنَّ المفروض هو أنَّ الآية في مقام الخصومة المُحاجَّة والمطلوب في هذا المقام هو إلزام الطرف المقابل وهو لا يكون إلا إذا تكلم النبي معهم بوصفه إنساناً لا بوصفه نبياً، فلا يكون كلامه معهم على أساس إنَّ عدم وجدانه الحكم يكون دليلاً قطعياً على عدم وجوده واقعاً كما في الإعتراض الأول، وكذلك لا يتكلم معهم على أساس أنَّ عدم وجدانه دليل على عدم صدور هذا التشريع قطعاً، وإنما الذي يكون ملزماً لهم هو أن يقول لهم إنَّ عدم الوجدان دليل على التأمين، أي أنَّ هناك براءة تجاه التكليف الذي لا يصل الى الإنسان، فيُستفاد منها ثبوت التأمين والبراءة مع عدم الوصول مع إحتمال الصدور والثبوت واقعاً، وهذا هو المناسب لمقام المُحاجَّة والخصومة.

الإعتراض الثالث: أن يقال يحتمل أن يكون التأمين ثابتاً في الآية بإعتبار عدم وجدان الحرمة ولكنه لا يُستفاد من الآية لا بمفردها وإنما مع إنضمام دليل إجتهادي آخر يكون دخيلاً في إثبات التأمين، وهو العمومات الواردة في المطعومات والمشروبات من قبيل قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[2] ونحوها مما يدل على حلية ما في الأرض للإنسان، والمحرمات التي وقعت المُحاجَّة فيها كلها من هذا قبيل، فيثبت بالمجموع التأمين ، أما الآية محل البحث فلا يمكن الإستدلال بها لأنَّ الكلام في فرض الشك في حرمة شيء مع عدم وجود دليل إجتهادي يدل على إباحته، وهو هنا موجود.

وجوابه: إنَّ ما ذكر في هذا الإعتراض خلاف ظاهر الآية الشريفة فإنَّ الظاهر منها هو أنَّ ملاك التأمين والبراءة وعدم تبعات التكليف المحتمل هو عدم الوجدان وحده.

والحاصل إنَّ الآية تُشير الى قاعدة مُسلَّمة ومرتكزة في الأذهان ولا يمكن إنكارها وهي أنَّ عدم الوصول - أي عدم الوجدان - يكفي للتأمين ولرفع تبعات التكليف، فيتحد مفادها مع مفاد الآية الأولى والآية الثالثة في إثبات التأمين مع عدم وصول التكليف.

الآية الخامسة: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا[3]

﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾[4] ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [5]

إستدل بها على البراءة باعتبار ظهورها في أنَّ عدم بعث الرسول تكون للناس على الله الحجة وأما مع بعثه فتكون الحجة لله على الناس، فيمكن أن يستفاد من الآية عدم إستحقاق العقاب في حالة عدم وصول التكليف، بمعنى أنَّ العبد لو عوقب يكون عقابه في غير محله، في مقابل من يستحق العقاب عندما يتم البيان ويخالف التكليف فعقابه يكون في محله.

النتائج:

تبين مما تقدم أنَّ جميع الآيات الشريفة المُستدل بها على البراءة في محل الكلام عدا الآية الثانية دالة على البراءة والتأمين، مع عدم بعث الرسول كما في الآية الأولى والأخيرة، أو مع عدم بيان ما يتقون كما في الآية الثالثة، أو مع عدم الوجدان كما في الآية الرابعة.

والظاهر أنَّ البراءة والتأمين في هذه الآيات منوط بعد البيان مطلقاً فتكون أدلة الإحتياط - لو تمت - واردة عليها لأنها بيان للحكم الظاهري فترفع موضوع البراءة حقيقية وهو معنى الورود، وهذا واضح بالنسبة الى الآية الأولى والخامسة لأنَّ كلاً منهما جُعلت الغاية فيها هي بعث الرسل، فإنَّ عدم بعث الرسل يساوق عدم البيان مطلقاً.

وأما الآية الثالثة فإنَّ (ما يتقون) ليست مختصة ببيان الحكم الواقعي بل تشمله مع الحكم الظاهري، فالبراءة مجعولة عند عدم بيان مطلقاً.

نعم الآية الرابعة قد يقال لا عموم فيها لأنها تتحدث عن محرمات معينة وكلها أحكام واقعية فالبراءة التي تثبت فيها هي عند بيان الأحكام الواقعية ولا نظر لها الى الأحكام الظاهرية، فلا يمكن أن نستفيد منها أنَّ موضوع البراءة هو عدم البيان مطلقاً وإنما قد يُستظهر منها أنَّ الموضوع هو عدم بيان الحكم الواقعي، اللهم إلا أن يقال بالإطلاق وأنَّ المقصود هو عدم وجدان تحريمها ولو بالعنوان الثانوي، والبراءة إنما تثبت على هذا التقدير فيتحد مفادها مع مفاد الآيات الأخرى.

وبناءً على هذا تكون الآيات- باستثناء الآية الثانية - دالة على البراءة، ولكنها براءة مورودة لأدلة الإحتياط لو تمت سنداً ودلالة.


[1] السورة انعام، الأية 145.
[2] السورة بقره، الأية 29.
[3] السورة نساء، الأية 163.
[4] السورة نساء، الأية 164.
[5] السورة نساء، الأية 165.