الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/08/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الثالثة

إنتهينا في الآية الثالثة الى أنَّ عدم البيان الذي أُشير له في الآية بقوله تعالى ﴿حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم﴾ والذي هو موضوع للتأمين هل المقصود به عدم البيان مطلقاً أي عدم بيان الحكم ولو بعنوانه الثانوي، أم المقصود به عدم بيان الحكم بعنوانه الأولي، فعلى الأول تكون أدلة الإحتياط واردة على البراءة لأنَّ لأدلة الإحتياط تعتبر بياناً على الحكم بعنوانه الثانوي فلا يمكن إبراز هذا الدليل في قبال أدلة الأخباريين.

وعلى الثاني - أي عدم بيان الحكم الواقعي للشيء بعنوانه الأولي - تكون البراءة معارضة لأدلة الإحتياط، لأنَّ المكلف يكون شاكاً في الحكم الواقعي وأدلة الإحتياط تقول يجب عليك الإحتياط وأدلة البراءة تجعل له التأمين فيقع التعارض بينهما.

وذكرنا أنَّ المحقق العراقي قده ذهب الى الأول فيكون مفاد الآية نفس مفاد البراءة العقلية لأنَّ البيان في القاعدة العقلية يُراد به الأعم من بيان الحكم الواقعي وببيان الحكم الظاهري، ولا إشكال في أنَّ أدلة الإحتياط لو تمت تكون مقدمة على البراءة العقلية ورافعة لموضوعها، فتكون هذه الأدلة مقدمة على الآية الشريفة ورافعة لموضوعها، وكان حاصل دليله هو إطلاق البيان في الآية وعدم وجود ما يصلح لتقييده، ولا موجب لتخصيصه بخصوص البيان الواقعي، فتكون أدلة الإحتياط بياناً لما يتقون فيجب عليهم الإجتناب.

وأما الثاني فدليله المستفاد من كلمات السيد الشهيد قده هو أنَّ إسم الموصول الذي يتعلق به البيان ﴿مَّا یَتَّقُونَۚ﴾ لا يُراد به الحكم الشرعي لأنه بعد صدوره يكون ثابتاً ولا معنى لإتقائه واجتنابه، وإنما المراد منه هو إما العقاب وإما مخالفة الحكم الشرعي، وكل منهما يصح أن يقال ينبغي للإنسان إجتنابه، ولكن حيث أنَّ إرادة العذاب غير ممكنة فيتعين أن يكون المقصود هو مخالفة الحكم الشرعي، والمعنى حتى يُبيَّن لهم ما يوجب إتقاء مخالفة الحكم الشرعي والابتعاد عنها، وذلك عن طريق بيان الحكم الشرعي.

وأما إحتمال إرادة العذاب والعقاب فنفيه بأن يقال إنَّ الآية جعلت العقاب متأخراً رتبةً عن البيان لأنها تقول (لا عقاب من دون بيان)، وتقول ﴿حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَ﴾ وهي تعني ثبوت شيء في رتبة سابقة عن البيان ينبغي أن يُبتعد عنه ويُتقى وهو المشار إليه ﴿مَّا یَتَّقُون﴾ ولا يمكن أن يكون هو العقاب لأننا فرضنا تأخره رتبة عن البيان، فالعقاب متأخر عن البيان والبيان متأخر عن ﴿مَّا یَتَّقُونَ﴾ لأنه متعلق فالموصول متقدم رتبة على البيان، ولا يمكن أن يكون المراد من الإسم الموصول هو العقاب لأنه فُرض متأخراً رتبة عن البيان فكيف يُفرض في مرتبة سابقة على البيان! فيتعين أن يكون المقصود من الموصول هو مخالفة الحكم الشرعي.

فإذا ثبت هذا فمن الواضح أنَّ مخالفة الحكم الشرعي تنحصر بأن يكون المقصود بها هو مخالفة الحكم الشرعي الواقعي، وأما مخالفة الحكم الشرعي الثانوي فلا تكون إلا بعد البيان ولا يمكن فرضها قبله، فمن دون أدلة الإحتياط لا مخالفة للشيء بعنوانه الثانوي، لأن أدلة الإحتياط تأمر المكلف بالإحتياط ولزوم ترك محتمل الحرمة، فعندئذٍ يقال أنَّ الحكم الظاهري الثابت للشيء بعنوانه الثانوي يجب الابتعاد عن مخالفته، وأما قبل بيان الحكم الظاهري فلا تصدق المخالفة للحكم الظاهري، والمخالفة التي يمكن فرضها قبل البيان هي مخالفة الحكم الواقعي، فكانَّ الشارع يقول إذا بَينتُ لكم الأحكام الشرعية فيجب عليكم الابتعاد عن مخالفتها، وإذا لم أُبين لكم الأحكام الواقعية فلا يجب عليكم الابتعاد عن مخالفتها، أي تثبت البراءة، فيكون موضوع البراءة هو عدم بيان الحكم الواقعي، فالبراءة المستفادة من هذه الآية منوطة بعدم بيان الحكم الواقعي.

وعليه يندفع ما يقال من أنَّ البراءة المستفادة من الآية لا تضر القائل بالإحتياط، بل تضره لأنها تكون معارضة لأدلة الإحتياط.

وهذا الكلام وجيه وصناعي ولكن المشكلة فيه هو منافاته لما إستظهرناه من الآية وأنها مسوقة لبيان نفي الشأنية ومفادها هو أنَّ العذاب قبل البيان ليس لائقاً به سبحانه، ونفي الشأنية يتنافى مع ما تقدم وذلك باعتبار أنَّ مقتضى ما إستُدل به على القول الثاني هو ونفي العذاب مع عدم بيان الحكم الواقعي فقط، وهو يقتضي ثبوت البراءة والتأمين مع عدم بيان الحكم الواقعي وهو مطلق أي حتى إذا بُيِّنَ الحكم الظاهري، أي بُيِّنَ وجوب الإحتياط في الشبهة الحكمية، فما لم يُبيَّن الحكم الواقعي فأنت في حل والتأمين ثابت وإن بُيِّنَ حكم الشيء المشكوك بعنوانه الثانوي، هذا لازم الكلام المتقدم.

ولكن هل يمكن الإلتزام بأنَّ المكلف الذي بُيِّنَ له الحكم الظاهري ووصلته أدلة وجوب الإحتياط ولم يهتم بها وفعل ما يشك في حرمته إستناداً الى عدم بيان حكم الشيء بعنوانه الأولي أنه لا يستحق العقاب؟

الجواب: هو يستحق العقاب، ولا فرق بين مخالفة الحكم الشرعي الواقعي ومخالفة الحكم الشرعي الظاهري فكلاهما حكم شرعي إلهي، فكما يجب طاعة الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية يجب إطاعة الأحكام الشرعية الثابتة للأشياء بعناوينها الثانوية، وعدم إطاعة الحكم الظاهري بعدم إمتثال أدلة وجوب الإحتياط التي بُينت له يوجب إستحقاق العقاب ومعه لا يصح صياغة البراءة بلسان نفي الشأنية لعدم إمكان الجمع بين نفي الشأنية وبين إستحقاق العقاب، وقد تقدم أن نفي الشأنية يلازم عدم الإستحقاق، فإذا إستفدنا من الآية أنَّ البراءة صيغت بلسان نفي الشأنية فلابد من إفتراض عدم الإستحقاق، فلا يمكن أن يكون موضوعها هو عدم بيان الحكم الواقعي فقط لأنَّ لازمه هو ثبوت البراءة بمجرد عدم بيان الحكم الواقعي وإن بُيِّنَ الحكم الظاهري، ولكن مع بيانه ووصوله الى المكلف يستحق العقاب على مخالفته، ومع إستحقاقه العقاب كيف نقول أنه لا يعاقب لأنَّ عقابه ليس لائقاً بشأنه تعالى! بل هو من شأنه والعقاب في محله، وهذا ما يوجب التوقف في تبني الرأي الثاني في تفسير الآية.

وعليه فالقاعدة تقتضي البناء على الرأي الأول وهو أن يقال أنَّ مقتضى إطلاق البيان في الآية هو أن يكون موضوع البراءة هو عدم بيان الحكم الواقعي وعدم بيان الحكم الظاهري، وبهذا تكون أدلة الإحتياط واردة على البراءة المستفادة من الآية، ويشهد له أنَّ مفاد الآية هو نفس مفاد قبح العقاب بلا بيان ولا إشكال عندهم في أنَّ أدلة الإحتياط تكون واردة على قاعدة البراءة العقلية.

قد يقال بأنَّ الرأي الأول - أنَّ موضوع البراءة هو عدم البيان مطلقاً - في تفسير الآية له لازم باطل وهو إنَّ كون أدلة الإحتياط واردة على البراءة ورافعة لموضوعها يلزم منه أن تبقى الآية بلا مورد، وهذا اللازم يكون مانعاً من الإلتزام بالقول الأول.

ويلاحظ عليه:

أولاً: إنَّ هذا الإشكال مبني على إفتراض تمامية أدلة الإحتياط سنداً ودلالة، وأما على القول بعدم تماميتها سنداً أو دلالة أو كلاً منهما فلا يلزم ذلك ويكون لجعل البراءة فائدة، لأنَّ المفروض هو عدم بيان الحكم الواقعي من جهة مع عدم تمامية أدلة الإحتياط من جهة أخرى فتكون كل الشبهات مورداً للبراءة.

وثانياً: إنَّ هذا الإشكال مبني على عدم التبعيض في أدلة الإحتياط كما ذهبوا الى ذلك وقالوا بتماميتها في الشبهات الحكمية التحريمية دون غيرها كالشبهة الوجوبية والشبهة الموضوعية، فإذا كانت البراءة مورودة لأدلة الإحتياط فهي كذلك في خصوص الشبهات التحريمية وتبقى لها موارد أخرى من دون ورود أدلة الإحتياط عليها.