44/08/05
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الثالثة
كان الكلام في الآية الثالثة هي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[1]
وتقدم تقريب الإستدلال بها وكان مؤداه هو أنَّ الآية ظاهرة في أنَّ إضلال الناس بأي معنى كان - سواءً كان بتسجيلهم ضالين أو إضلالهم حقيقة أو أريد به الحرمان والخذلان الموجب للضلال - فقد أُنيط بالبيان فيكون العقاب المترتب على هذه الأمور منوطاً بالبيان أيضاً، فلا عقاب من دون بيان وهو معنى البراءة المطلوب إثباته.
ولابد من إضافة لهذا الإستدلال وهي أنَّ المراد من لا عقاب بلا بيان هنا ليس بإعتبار العفو الإلهي والرحمة الشاملة للعبد مع إستحقاقه العقاب وإنما بمعنى عدم الإستحقاق، أي من يخالف التكليف الذي لم يتم عليه البيان لا يستحق العقاب فالمنفي مع عدم البيان هو إستحقاق العقاب، وهذا يثبت بما أشرنا إليه في الآية الأولى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ الظاهر منه نفي الشأنية، وقد تقدم أنَّ (كان) وإن كانت فعلاً ماضياً لكنها منسلخة عن إفادة الماضوية وإنما هي هنا بيان الشأنية، أي أنَّ الله سبحانه وتعالى ليس من شأنه أن يعذب قبل أن يبعث رسولاً، وليس من شأنه أن يُضل قوماً حتى يُبيَّن لهم، فإذا إستفدنا ذلك فيمكن القول إن عدم العذاب إنما هو لعدم الإستحقاق وذلك لأنَّ مع فرض إستحقاق العذاب يكون العذاب في محله ولا يمكن القول أنه ليس من شأنه تعالى، وإنما يصح ذلك مع عدم الإستحقاق، فالآية عندما تنفي العذاب من دون بيان بلسان نفي الشانية تُفيد عدم إستحقاق العقاب عند مخالفة التكليف الذي لم يتم عليه البيان وهو المطلوب.
الإيرادات على الإستدلال بالآية:
الإيراد الأول على هذا الإستدلال هو نفس الإيراد على الآية الأولى وهو أنَّ الآية بصدد الحديث عن الأمم السابقة وتقول أنَّ إضلالهم وعذابهم الدنيوي لم يكن ينزل إلا بعد البيان لهم، وهذا أجنبي عن محل الكلام لأنَّ المراد نفي العقاب الأخروي لا الدنيوي، وعليه لا يصح الإستدلال بها.
وتقدم جوابه بأنَّ هذا التعبير ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾و﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا﴾وأمثالها ظاهر في نفي الشأنية وأنَّ ديدنه سبحانه وتعالى جرى على أنه لا يُعذب قبل البيان لأنه ظلم وقبيح لا يصدر منه تعالى، ولا يفرق في هذا بين عذاب وعذاب فسواء كان العذاب دنيوياً أم أخروياً فالله لا يُعذب من دون بيان بإعتباره ظلماً وقبيحاً، والفعل (كان) إنسلخ عن إفادة الماضوية كما تقدم والإتيان به يُراد به نفي الشأنية.
الإيراد الثاني إنَّ الإضلال عبارة عن خذلانه وحرمانه تعالى لهم الموجب لإستحقاق العذاب الدائم والخلود في النار، وهو بهذا المعنى أنيط بالبيان ولا يلزم من ذلك أن تكون بقية المراتب من العقاب منوطة بالبيان أيضاً، فكأنَّ الآية تريد أن تجعل العذاب بمعنى الخلود في النار وهو الذي يكون منوطاً بالبيان لأنَّ المقصود بالإضلال هو ما يوكون موجباً للعذاب الدائم والخلود في النار، فيكون المعنى لا خلود في النار بلا بيان وهذا لا يستلزم أن يكون العذاب بمراتب أقل من منه منوطاً بالبيان أيضاً فلا يصح الإستدلال على أنَّ مطلق العذاب منوط بالبيان كما هو المقصود في محل الكلام.
ويمكن الجواب عنه: بأن هذا الإستدلال يتوقف على أنَّ المقصود بالإضلال هو الخذلان والحرمان الموجب للعذاب الدائم، وإثبات ذلك غير واضح فقد يكون المقصود منه بعض مراتب الحرمان هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنَّ الملاك في إناطة العذاب الدائم والخلود في النار بالبيان هو قبحه بنظر العقلاء لأنه يُعد ظلماً وحينئذٍ لا فرق بين عذاب وعذاب فالعقل يدرك ذلك في جميع المراتب وأنه من دون بيان يكون قبيحاً وظلماً ولا فرق بين المرتبة الأعلى وبين المرتبة الأدنى من العذاب، فهذا الإيراد ليس واضحاً أيضاً.
فإلى هنا كأن الإستدلال بالآية تام.
نسبة الآية الى أدلة الإحتياط
المقصود من الإستدلال بهذه الأدلة لإثبات البراءة هو إبراز معارض لأدلة الإحتياط التي إستدل بها علماؤنا الأخباريون فلابد من أن تكون الآيات المُستدل بها معارضة لأدلة الإحتياط، وأما إذا كان مفادها ليس معارضاً لمفاد أدلة الإحتياط بأن كانت أدلة الإحتياط واردة ومتقدمة عليها فلا تنفع هذه الأدلة في رد الأخباريين وتتقدم أدلة الإحتياط على أدلة البراءة، فهل لسان هذه الآية هو لسان معارض لأدلة الإحتياط أو ليس كذلك؟
وهذا البحث مرتبط بتنقيح مسألة وهي أنَّ البيان في الآية هل المقصود به بيان حكم الشيء واقعاً وبعنوانه الأولي أو المقصود بيان حكم الشيء ولو بعنوانه الثانوي؟
فإذا قلنا أنَّ المراد بالبيان في الآية هو بيان حكم الشيء بعنوانه الأولي - أي الحكم الواقعي للشيء - فيكون مفاد الآية نفي العذاب حتى يُبيّن لهم حكم الشيء بعنوانه الأولي، ومع عدم هذا البيان يثبت التأمين، وعلى هذا الإحتمال تكون الآية منافية لأدلة الإحتياط لأنَّ الآية تقول أنَّ الحكم غير المبين ليس منجزاً وأدلة الإحتياط تثبت التنجيز فيتنافيان، فمثلاً أدلة الإحتياط تثبت الإحتياط بلحاظ أكل لحم الأرنب وأدلة البراءة تنفيه فيتعارضان.
وأما إذا قلنا أنَّ المقصود هو بيان حكم الشيء مطلقاً ولو بعنوانه الثانوي فيكون المفاد هو جعل البراءة عند عدم البيان مطلقاً، وعلى هذا التقدير تكون أدلة الإحتياط واردة عليها ورافعة لموضوع البراءة حقيقة لأنها تُعتبر بيان على حكم الشيء ظاهراً ولا تصل النوبة الى أدلة البراءة.
ذهب المحقق العراقي قده الى الثاني - أي عدم البيان مطلقاً - فيكون مفاد الآية مساوق للبراءة العقلية حيث تتقدم عليها أدلة الإحتياط - لو تمت - عليها بالورود.
والرأي الآخر يقول إنَّ الصحيح هو الأول أي عدم بيان حكم الشيء الواقعي وبعنوانه الأولي، وممن ذهب الى ذلك السيد الشهيد قده.
وإستدل المحقق العراقي قده على مختاره بظهور الآية فإنَّ قوله تعالى ﴿حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَۚ﴾ صادق حتى إذا كان البيان للحكم الظاهري، ولم يُبيّن سنخ البيان في الآية فيكون شاملاً له، والإحتياط مثلاً تحفظ به الإحكام الواقعية ويصدق عليه أنه بيان لما يتقون، فالمقصود هو مطلق البيان الثابت للشيء بعنوانه الأولي وبعنوانه الثانوي.
ويُستدل للطرف الآخر بأنَّ قوله تعالى ﴿مَّا یَتَّقُونَۚ﴾ لا يُراد به الحكم الشرعي حتى يقال لا فرق بين الحكم الواقعي وبين الحكم الظاهري، وذلك لأنَّ الحكم ليس مما يُتقى منه وإنما الذي يُتقى منه أحد شيئين إما العقاب وإما مخالفة الحكم الشرعي باعتبار أنها تجر الى العقاب، ولا يُحتمل أن يكون المقصود بــــ ﴿مَّا یَتَّقُونَۚ﴾ العذاب فيتعين أن يكون المراد به مخالفة الحكم الشرعي.