44/08/04
الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الثالثة
إنتهينا الى أنَّ الظاهر من الآية الثانية بحسب السياق هو أنَّ المراد بالإسم الموصول هو المال وأنها ناظرة الى الإنفاق، وأنه تعالى لا يكلف عباده إنفاق مالٍ إلا إذا رزقهم إياهم، وبذلك تكون الآية أجنبية عن محل الكلام ولا يصح الإستدلال بها، ولكن ذكرنا رواية عبد الأعلى الدالة بتطبيق الإمام عليه السلام على أنَّ مفاد الآية أوسع من المال حيث طبقها عليه السلام على التكليف بالمعرفة في الأمور الإعتقادية حيث سأله السائل: (.. قلت: فهل كُلفوا المعرفة؟ قال: لا، على الله البيان..) ثم استشهد بالآية، وهذا يعني أنَّ المعنى المراد من الإسم الموصول لابد أن يكون أعم من المال وذلك بأن يشمل مورد الرواية وهو المعرفة ومورد الآية وهو الإنفاق، والتفسير المناسب لذلك هو أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما أقدرهم عليه، فيكون مفاد الآية هو عدم التكليف بغير المقدور، وهذا يمكن أن يشمل المال والمعرفة لأنَّ التكليف بإنفاق مالٍ غير موجود عند الإنسان تكليف بغير المقدور كما أنَّ تكليف الإنسان بالمعرفة مع عدم البيان على ما كُلِّف بمعرفته يكون تكليفاً بغير المقدور أيضاً، ولكن مع الجمع بينهما بهذا النحو تكون الآية أجنبية عن محل الكلام وذلك باعتبار أنَّ عدم التكليف بالمعرفة إنما هو من جهة العجز عنها ونفي التكليف مع عدم القدرة غير نفي التكليف مع عدم البيان، والمطلوب هو الثاني، أي إثبات عدم العقاب مع عدم بيان التكليف، وعدم التكليف بشيء إلا مع القدرة عليه صحيح في نفسه ويشمل التكليف بإنفاق المال والتكليف بالمعرفة، لكن هذا ملاك آخر لعدم التكليف وما نحن فيه شيء آخر وهو عدم التكليف وعدم العقاب بملاك عدم البيان لا بملاك عدم القدرة على المُكلَّف به، فتعميم الآية لما ينسجم مع المعرفة بناءً على صحة الرواية لا ينفع في إثبات المطلوب، والإستدلال بها في محل الكلام غير واضح ولا يخلو من خفاء، وقد ذكرنا بعض القرائن المؤيدة لهذا الفهم.
ومن هنا يظهر أنَّ الأقرب في تفسير الآية هو أنها تُشير الى عدم التكليف بغير المقدور وهو المناسب لسياق الآية كما مرَّ، وبناءً عليه يكون المقصود بالإيتاء هو الإعطاء، والمعنى لا يكلف الله نفساً بشيء إلا إذا أعطاها ومكَّنها منه، وأما تفسير الإيتاء بالإعلام كما هو مبنى الإستدلال بها على البراءة فهو خلاف الظاهر لأنَّ صدق إيتاء الشيء لا يكفي فيه إعلام الإنسان به فإنه الذي يقتصر على إيتاء الصورة الذهنية للشيء وليس إيتاءً لنفس الشيء، فالتعبير عن الإعلام بالإيتاء تعبير مجازي ولا يُصار إليه مع إمكان حمل اللفظ على المعنى الحقيقي كما هو الحال عند تطبيقها على المال بمعنى إعطاء المال للمكلف ووصوله له، وكذا أتاه المعرفة بمعنى وصلت إليه المعرفة، فإيتاء الشيء غير الإعلام به وإن كان إستعماله في الإعلام ممكناً ولكنه بنحو المجاز والتوسع، ومن هنا يظهر أنَّ هناك تأمل في دلالة الآية على البراءة.
ثم على تقدير تمامية الإستدلال بالآية على البراءة فإنَّ مفادها هو نفي الكلفة والمشقة من جهة التكليف غير الواصل، وهو نفس مفاد البراءة العقلية وحينئذٍ يقال إنَّ هذا المفاد هل ينافي ما إستدل به علماؤنا الأخباريون على وجوب الإحتياط؟ بمعنى هل يمكن جعل هذه الآية الشريفة وما دلَّ على البراءة بهذا اللسان معارضاً لأخبار الإحتياط التي إستدل بها الإخباريون على وجوب الإحتياط في الشبهات الحكمية؟
نقول إذا فسَّرنا الآية بهذا التفسير فلا معارضة بينهما وذلك لأنَّ مفاد الآية هو نفي الكلفة والمشقة من جهة التكليف الواقعي غير الواصل وهذا لا ينافي إيقاع المكلف في الكلفة والمشقة من ناحية أدلة وجوب الإحتياط، ويمكن العمل بكل منهما في نفس الشبهة، فإذا شك المكلف في وجوب شيء فلا كلفة ولا مشقة ولا عذاب عليه من ناحية الآية ولكن من ناحية أدلة وجوب الإحتياط يقع في مشقة وكلفة، وعليه لا يمكن أن نبرز هذه الآية كمعارض لأدلة الإحتياط التي إستدل بها الإخباريون، وتوضيح ذلك:
تفسير الآية بما تقدم يُعبر عنه بالسببية أي أنَّ الآية في مقام نفي الكُلفة بسبب التكليف غير الواصل، وهناك تفسير آخر يُعبر عنه بالموردية بمعنى أنَّ الآية تنفي الكلفة والمشقة في مورد التكليف غير الواصل، وهذان التفسيران يختلفان في كيفية المقارنة بينها وبين أدلة الإحتياط فعلى السببية لا تكون هناك معارضة بين الآية وبين أدلة وجوب الإحتياط، وأما إذا قلنا بالموردية فالمعارضة تكون ثابتة لأنها تعني عدم الكلفة والمشقة في مورد التكليف المشكوك وهو ينافي أدلة وجوب الإحتياط التي تثبت الكلفة والمشقة في نفس هذا المورد، وإن كانت لا تثبت الكلفة والمشقة بسبب التكليف غير الواصل، وعليه يمكن إبراز الآية الشريفة بناءً على التفسير الثاني كمعارض لأدلة وجوب الإحتياط بخلافه على التفسير الأول.
والصحيح في المقام هو أنَّ الآية معارضة لأدلة وجوب الإحتياط على كلا التفسيرين، أما على السببية فنفي الكلفة على كل حال يكون من جهة التكليف الواقعي المشكوك حتى على القول بالسببية، وبعبارة اخرى أنَّ أدلة وجوب الإحتياط تثبت الكلفة والمشقة من جهة التكليف المشكوك لأنَّ الغرض من إيجاب الإحتياط هو الوصول الى الواقع، كما أنَّ البراءة ترفع الكلفة عن العباد من جهة التكليف الواقعي المشكوك، والتفريق بينهما غير ممكن، فالمعارضة موجودة على كلا التقديرين، فيمكن إبراز الآية الشريفة إذا تمت دلالتها كمعارض لأدلة وجوب الإحتياط.
هذا تمام الكلام في الآية الثانية.
الآية الثالثة قوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[1]
ومعنى الآية - والله العالم - هو أنه سبحانه لا يُضل قوماً بعد هدايتهم حتى يُبين لهم ما يجتنبونه من الأفعال والتروك، وهذه الآية شبيهة بالآية الأولى بمعنى أنَّ تقريب الإستدلال فيهما واحد وحاصله إنَّ الإضلال في الآية له تفاسير:
الأول أنه بمعنى يُسجلهم ويكتبه عنده ضالين.
الثاني أن يجعلهم عنده ضالين.
الثالث أنَّ المراد بالإضلال هو الخذلان والحرمان من رحمته تعالى المؤدي الى الإضلال.
وهذه المعاني كلها تؤدي الى العقاب، وعلى كل تقدير تدل الآية على أنَّ هذا الإضلال منوط بالبيان ﴿حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَۚ﴾ فالإضلال بما يستبطنه من العقاب منوط بالبيان وهو المطلوب، فمفاد هذه الآية هو مفاد الآية الأولى المتقدمة.
ويضاف الى ذلك إنَّ تعدي الفعل ﴿یُبَیِّنَ﴾ باللام يناسب أن يكون المراد به الوصول لا مجرد الصدور الذي لا يناسبه التعبير بـــــ ﴿یُبَیِّنَ لَهُم﴾، فيكون مفاد الآية لا عقاب مع عدم وصول البيان، وهو المطلوب، وأما مع عدم صدور البيان فلا خلاف في عدم عقاب وإنما الكلام في عدم وصوله حتى مع فرض صدوره.