الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/08/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الثانية

الوجه الثاني من جواب المحقق العراقي قده:

وهو يتوقف على أن يكون المراد بالفعل ﴿لَا یُكَلِّفُ﴾ هو الكلفة والمشقة وليس المراد منه الحكم، والمعنى أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يوقع عباده في كلفة ومشقة، وحينئذٍ يقول: على تقدير أن يكون المراد بالإسم الموصول الجامع الشامل للتكليف فلا يلزم المحذور الثبوتي الذي ذكره الشيخ وذلك لأنَّ الإسم الموصول يكون مفعولاً به، وليست نسبته نسبة الفعل الى المفعول المطلق وذلك لوضوح المباينة بين الكلفة وبين الحكم الشرعي ومع المباينة يتعين أن يكون مفعولاً به وأما المفعول المطلق فلا يُباين الفعل وإنما هو طور من أطواره، وعليه لا تعدد في النسبة ولا يلزم المحذور.

والمعنى على هذا لا يوقع الله نفساً في مشقة وكلفة إلا التكليف الذي آتاها وبينه لها، وأما الكلفة والمشقة في التكليف الذي لم يوصله فمنفية، أي لا يوقع عباده في كلفة إلا مع البيان، فالاسم الموصول لا يكون مفعولاً مطلقاً حتى إذا أريد منه الحكم الشرعي، فيرتفع الإشكال.

والحاصل: أنَّ المراد بالفعل في ﴿لَا یُكَلِّفُ﴾ ليس هو نفس المراد من الموصول - أي الحكم الشرعي - حتى يتوهم كونه مفعولاً مطلقاً بل المراد بالفعل التكليف بمعناه اللغوي أي جعل الإنسان في كلفة ومشقة وهذا من باب تعلُّق الفعل بالمفعول به لوضوح المغايرة بين التكليف بمعناه اللغوي وبين الحكم الشرعي، وعليه فاسم الموصول إذا أجرينا فيه الإطلاق وحملناه على الجامع بين المال والفعل والتكليف كانت نسبة الفعل إليه نسبة الفعل الى المفعول به ولا يلزم محذور الجمع بين النسبتين المتباينين.

وهذا الوجه لا باس به في دفع المحذور الثبوتي على الإحتمال الرابع الذي يقول أنَّ المراد من الموصول هو الجامع، هذا كله ثبوتاً.

وأما في مقام الإثبات فيقال إنَّ ما يُستفاد من الآية الشريفة لا يُساعد على صحة الإستدلال بها على البراءة، وذلك لأمرين:

الأول قوة إحتمال إرادة خصوص المال وعليه لا يصح الإستدلال بها وتكون الآية ناظرة الى موضوع الإنفاق، ومنشأ هذه القوة هو السياق فإنّ الآية تقول قبل ذلك ﴿لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ﴾ وهي تشتمل على الإسم الموصول أيضاً ﴿مِمَّاۤ﴾ ومن الواضح أنَّ المراد منه هنا هو المال بلا كلام، ثم تقول بعد ذلك مباشرة ﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ﴾ فيكون هذا المقطع من الآية بمثابة التعليل للمقطع السابق عليه، وتخصيص الآية بالمال لا ينافي كون المقطع محل البحث بنحو الكبرى الكلية وذلك لأنَّ الآية وإن كانت تتحدث عن الإنفاق على الزوجة في العدة ولكنها لا تختص به بل تشمل كل إنفاق فالكلية ثابتة وتنطبق على موردها وعلى غيره.

ولكن في قبال ذلك هناك ما قد يُشكل مانعاً من الإلتزام به وهو رواية يُطبق فيها الإمام عليه السلام الآية على مورد ليس من باب الإنفاق مما يعني أنها لا تختص بالمال، وهي رواية عبد الأعلى المعروفة ففي الكافي:

(وبهذا الاسناد) - أي الإسناد الوارد في الحديث الرابع وهو علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى - (عن يونس، عن حماد، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أصلحك الله هل جُعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال :لا، قلت: فهل كُلفوا المعرفة ؟ قال: لا، على الله البيان " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها "، " ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها " )[1] .. الحديث.

فاستدَّل الإمام عليه السلام بالآية الشريفة على عدم التكليف بالمعرفة إلا بعد البيان مما يعني أنَّ الآية لها معنى أوسع من المال يجب تفسيرها به لينسجم مع هذا التطبيق.

وأما السند فالمشكلة فيه تنحصر في عبد الأعلى وأما الباقي فمفروغ من وثاقتهم، وعبد الأعلى إذا ورد مطلقاً فهو مردد بين عبد الأعلى بن أعين وبين عبد الأعلى مولى آل سام، وهناك كلام طويل في اتحاد هذين العنوانين أو تعددهما، ذهب جماعة الى الإتحاد وإستُدل به على وثاقته إذا ورد مطلقاً لأنَّ عبد الأعلى بن أعين ثقة على ما قالوا لنص الشيخ المفيد على وثاقته في الرسالة العددية.

وهذا الكلام مناقش فيه تارة في التعدد باعتبار أنَّ بعض الرجاليين ذكروا عنوانين في كتبهم، وأخرى في الإعتماد على الرسالة العددية في إثبات التوثيق، ونحن إستقربنا عدم إمكان الإعتماد عليها لأنه ذكر مدحاً كثيراً لرواة نقطع بعدم إنطباق هذه العناوين عليهم، من قبيل الرؤساء الذين يرجع إليهم في معرفة الحال والحرام، فلا بد من تأويل هذا الكلام بنحو يمنع من الإلتزام بدلالته على التوثيق.

والنتيجة التي إنتهينا اليها في الرجال هي أنَّ الإتحاد لا يمكن إثباته وإن كان محتملاً، كما لا يمكن إثبات الوثاقة إعتماداً على الرسالة العددية، نعم ذكرنا شيئاً آخر وهو أنَّ عبد الأعلى مولى آل سام يمكن إثبات وثاقته برواية أحد المشايخ الثلاثة عنه بسند صحيح، خلافاً للمشهور الذي يُثبت وثاقة عبد الأعلى بن أعين، وقد ثبت أنَّ إبن أبي عمير روى عنه بسند صحيح وهو كافٍ في إثبات وثاقته، ولكن في هذه الرواية لا نعلم أنَّ عبد الأعلى المذكور هل هو مولى آل سام أم هو إبن أعين؟ فالرواية فيها كلام من حيث السند.

الأمر الثاني لو تنزَّلنا عن الأمر الأول - وهو أنَّ المراد بالموصول هو خصوص المال - ولو لأجل رواية عبد الأعلى فيقال: إنَّ إرادة التكليف بمعنى الحكم الشرعي من إسم الموصول خلاف الظاهر لأنَّ الظاهر إرادة نفس ما يراد من الفعل وهو المعنى اللغوي للتكليف المأخوذ من الكلفة والمشقة، والمعنى إنَّ الله لا يوقع في الكلفة نفساً إلا كلفة وجهداً آتاها أي أقدرها عليه، فيتحد مفاد الآية مع مفاد قاعدة إستحالة التكليف بغير المقدور، وهذه غير مسألة البراءة، فيُستنتج من هذا أنَّ الآية لا دلالة فيها على البراءة إما للأمر الأول أو للأمر الثاني.

والخلاصة: إنَّ الظهور الأولي للآية الشريفة يقتضي أن يراد من الموصول المال لأنَّ الحديث في الآية عن إنفاق المال، والموصول في قوله تعالى قبلها ﴿فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ﴾ يُراد به المال والمعنى لا يكلف الله نفساً إنفاق مال إلا المال الذي آتاها وأعطاها، فيكون المقطع محل البحث تعليلاً لمفهوم ما قبلها أي عدم التكليف بالإنفاق مع عدم الإيتاء، نعم قد ينافي ذلك رواية عبد الأعلى واستشهاد الإمام عليه السلام بالآية فإن لم تتم سنداً فلا إشكال وإن تمت فقد تكون مانعة عمّا ذكرنا.

وبناءً على تمامية الرواية سنداً كما ذهب الى ذلك كثير فلابد أن يُلتزم بأن إسم الموصول لا يختص بالمال بل يراد به معنى يشمل مورد الآية ومورد الرواية وذلك يكون بالإلتزام بأنَّ المراد بالإسم الموصول نفس ما يُراد من الفعل بمعنى الكلفة والمشقة، والمعنى أنَّ الله لا يوقع نفساً في كلفة ومشقة إلا إذا أقدرها عليه، وهذا المعنى يدخل فيه مورد الآية وهو المال ومورد الرواية وهو المعرفة، وحينئذٍ تشمل المال بإعتبار أنَّ الإنسان لا يكون قادراً على إنفاقه إلا إذا كان واجداً للمال وإلا فلا يُكلف بالإنفاق بل يكون التكليف به تكليفاً بغير المقدور ، ويشمل جميع الأفعال فإنَّ التكليف بها لا يكون إلا مع القدرة عليها ومنها المعرفة باعتبار عدم القدرة على معرفة المطالب الإلهية بالتفصيل إلا بعد ورود البيان بها من قِبله تعالى فهو لا يكلف معرفة تلك التفاصيل إلا إذا كانت مقدورة ولا تكون مقدورة إلا بالبيان منه تعالى، ويؤيد هذا الفهم أمور:

الأول: أنه موضع إتفاق المفسرين تقريباً.

الثاني: استشهاد الإمام عليه السلام في رواية عبد الأعلى بقوله ﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ البقرة: 286 قبل استشهاده بالآية محل الكلام، أي لا يكلف الله نفساً إلا ما تقدر عليه ولا تحتمل هذه الآية معنى آخر فتكون قرينة على أنَّ المقصود بآيتنا هو نفس ما يُراد من الآية الأولى وهو عدم التكليف بغير المقدور.

الثالث: إنَّ هذا الحمل ليس فيه مخالفة للظهور أصلاً لا بلحاظ الفعل لأنَّ الظاهر منه المعنى اللغوي، ولا بلحاظ الموصول لحمله على مورد الآية مع تعميمه لما تدل عليه الرواية - على تقدير تماميتها سنداً -، ولا بلحاظ الإيتاء لأنَّ المقصود به الإعطاء والقدرة على الشيء.

وهذا هو المعنى الأقرب من حيث الإستظهار من الآية الشريفة.


[1] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج1، ص163.