الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الثانية

كان الكلام في الإستدلال على البراءة الشرعية بالآية الثانية وهي قوله تعالى ﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ﴾ وذكرنا أنَّ المحتملات في الإسم الموصول أربعة:

الأول أن يكون المقصود هو المال والإيتاء بمعنى رزقه، ويكون مفاد الآية هو أنه تعالى لا يكلف نفساً إنفاق مالٍ إلا إذا رزقها إياه.

الثاني أن يكون المقصود هو الفعل والإيتاء بمعنى الإقدار عليه، ويكون مفاد الآية هو أنه تعالى لا يكلف نفساً فعلاً إلا إذا أقدرها عليه، وهذا هو مفاد قاعدة إستحالة التكليف بغير المقدور.

الثالث أن يكون المقصود هو التكليف والحكم والإيتاء بمعنى بيانه وإعلامه، ويكون مفاد الآية هو أنه تعالى لا يكلف نفساً تكليفاً إلا إذا بينه وأعلمه.

الرابع أن يكون المقصود هو الجامع بين الأمور الثلاثة المتقدمة ويكون معنى الإيتاء في كل مصداق بحسبه وما يناسبه.

والإستدلال بالآية موقوف على الإحتمال الثالث أو الرابع، فإذا كان المقصود هو خصوص التكليف فيصح الإستدلال بها لأنَّ مفادها يكون عدم التكليف إلا بعد البيان والإعلام وهو المطلوب، وكذا يصح الإستدلال إذا كان المقصود هو الجامع لأنَّ من جملة المعاني هو عدم التكليف مع عدم البيان وهو المطلوب.

ولذا يصح الإستدلال بالآية إذا إستبعدنا إحتمال إرادة خصوص المال وإحتمال إرادة خصوص الفعل، أما استبعاد الإحتمال الأول فهو مبني على التمسك بإطلاق إسم الموصول فلا موجب لتخصيصه بخصوص المال، في مقابل دعوى إختصاصه بالمال باعتبار أنَّ مورد الآية هو الإنفاق بشهادة صدرها قال تعالى ﴿لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ سَیَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرࣲ یُسۡرࣰا﴾.

وأجيب عنه: بأنَّ المورد لا يخصص الوارد إذا كان مطلقاً، وقوله تعالى ﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ﴾ بمنزلة الكبرى الكلية وكون مورد نزولها هو الإنفاق لا يوجب تخصيص الوارد به، فمقتضى إطلاق إسم الموصول هو عدم إختصاصه بالمال فيُستبعد الإحتمال الأول.

وبنفس البيان يُستبعد الإحتمال الثاني وهو إرادة خصوص الفعل، فيقال أنَّ مقتضى إطلاق الآية هو عدم الإختصاص بخصوص الفعل.

وهناك محاولة لاستبعاد الإحتمال الثالث - وهو أن يكون المقصود خصوص التكليف - ولكن ذلك ليس بإطلاق إسم الموصول فحسب وإنما لنكتة أخرى وهي أنَّ الظاهر من أنَّ الإسم الموصول يقع مفعولاً به وعلى الثالث يتعين أن يكون مفعولاً مطلقاً أي: لا يكلف الله نفساً إلا تكليفاً آتاها وأعلمها به وبيَّنه لها، ومن هنا يُستبعد الإحتمال الثالث.

وبعد استبعاد هذه المحتملات يكون مقتضى إطلاق الآية هو تعين الإحتمال الرابع فيصح الإستدلال بها لإثبات أنَّ التكليف لا يكون إلا مع البيان، وهو المطلوب.

ومن هنا يظهر أنَّ عمدة الإستدلال بالآية هو الإحتمال الرابع، والدليل الدال عليه هو التمسك بإطلاق الآية.

إشكال الشيخ الأنصاري قده

إستشكل الشيخ الأعظم في الإحتمال الرابع وإرادة الجامع بأنه يلزم منه أن يكون إسم الموصول بلحاظ شموله للتكليف مفعولاً مطلقاً ويكون مفعولاً به بلحاظ شموله للمال أو الفعل مع وضوح المغايرة بينهما فالمفعول المطلق هو نفس الفعل وطور من أطواره، وأما المفعول به فهو غير الفعل، وهذا يعني أنَّ الهيئة الخاصة الرابطة بين الفعل ومتعلقه مستعملة في معنيين متباينين لأنَّ نسبة الفعل الى المفعول المطلق غير نسبة الفعل الى المفعول به، فالأولى نسبة الفعل الى طور من أطواره وشأن من شؤونه بينما الثانية هي نسبته الى ما يُباينه ويُغايره، وهاتان نسبتان متغايرتان لا يمكن الجمع بينهما في هيئة واحدة، وهذا من قبيل إستعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو غير معقول أو غير صحيح على الأقل، وحينئذٍ يتعين حمل الإسم الموصول على الفعل وذلك باعتبار الإشكال في حمله على خصوص التكليف من جهة وحمله على خصوص المال لا يُناسب كلية الكبرى من جهة أخرى، وعليه لا يصح الإستدلال بالآية.

والمهم في كلامه هو أنَّ إرادة الجامع غير ممكنة للزوم إستعمال الهيئة في أكثر من معنى.

جواب المحقق النائيني قده

وأجاب عنه المحقق النائيني قده عنه بأنَّ التكليف تارة يُراد به المعنى المصدري وأخرى يراد به الإسم المصدري والفرق بينهما أنَّ الأول يراد به نفس الحدث والثاني يُراد به نتيجة الحدث، وهذا من قبيل الفرق بين التوضؤ وهو الحدث والمعنى المصدري وبين الوضوء وهو نتيجته المُعبر عنه بالإسم المصدري، وفي محل الكلام تارة يُلحظ التكليف كحدث وأخرى يُلحظ كنتيجة للحدث، ولا إشكال في كونه مفعولاً به على الثاني وإنما الإشكال إذا لُحظ كحدث ومعنى مصدري، وهو الذي لا يكون مبايناً للفعل وإنما يكون طور من أطواره، وأما إذا لاحظنا التكليف كنتيجة فهو شيء متحقق في الخارج ولو في عالم الإعتبار، وهذا لا مانع من أن يكون مفعولاً به، وحينئذٍ تكون النسبة واحدة وهي نسبة الفعل الى المفعول به، ولم نجمع بين نسبتين متباينتين ليُستشكل فيه بأنه من إستعمال اللفظ في أكثر من معنى، وإشكال الشيخ مبني على أنَّ المراد بالتكليف هو التكليف بالمعنى المصدري وهو الذي يلزم منه - على الإحتمال الرابع - الجمع بين نسبتين متباينتين، وأما على ما تقدم فالنسبة واحدة وهي نسبة الفعل الى مفعوله، والحدث هو التكليف كمعنى حدثي يصدر من المشرع ونتيجته هو أن يتحقق في الخارج التكليف والحكم، وهذا الحكم يكون مفعولاً به وليس مفعولاً مطلقاً، وبهذا يندفع الإشكال.

ويلاحظ عليه: نحن نُسلَّم إمكان إيجاد فرد للتكليف بالعناية والإعتبار ويكون مغايراً للمعنى الحدثي وهو النتيجة والإسم المصدري ولكن لا بد من إثبات هذه العناية وقيام قرينة على إعتبار المتكلم ذلك حتى يُتمسك بإطلاق إسم الموصول لإثبات شموله له، والظاهر من التكليف هو المعنى الحدثي، وحيث لا دليل على هذه العناية فلا يمكن ما إدعي، ويتعين أن يكون المراد بالتكليف ما هو ظاهر منه وهو المعنى الحدثي.

والحاصل: أنَّ إسم الموصول بإطلاقه يشمل كل فرد للمفعول به إما حقيقية وإما إعتباراً فشمول الإطلاق للتكليف متوقف على كونه فرداً للمفعول به في الرتبة السابقة على الإطلاق ولم يُعلم كونه فرداً له لا حقيقية لعدم المغايرة الحقيقية بينه وبين المصدر ولا إعتباراً لعدم العلم بإعتبار المتكلم في المقام فرداً مغايراً للحدث يُسمى بالنتيجة وبالاسم المصدري.

فيبقى إشكال الشيخ الى هنا على حاله، وحاصله لا يمكن أن يراد بالإسم الموصول الجامع.