الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أدلة أصالة البراءة الشرعية/ الكتاب العزيز/الآية الأولى والثانية

 

إنتهى الكلام في الآية الأولى البحث في المُغيى وهو قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾ وفيها بحثان:

الأول في أنَّ المقصود هل هو العذاب الأخروي أو الدنيوي أو الأعم منهما؟

والقرينة على أنَّ المقصود هو العذاب الأخروي هو سياق الآيات المتقدمة عليها التي يظهر منها أنَّ الحديث عن الجزاء الأخروي، ولكن الآيات التي بعدها تتحدث عن العذاب بالدنيوي، وهذا قد يكون مانعاً من الأخذ بالقرينة المتقدمة لإثبات إختصاص العذاب في الآية بالعذاب الأخروي.

ومن هنا نرجع الى ما قلنا أولاً وهو أنَّ المستظهر منها وهو نفي الشأنية، وهو كما ينطبق على العذاب الدنيوي ينطبق على العذاب الأخروي، فليس من شأنه سبحانه وهو العادل الحكيم أن يعذب عذاباً دنيوياً ولا أخروياً إلا بعد إرسال الرسل والبيان للناس.

البحث الثاني أنَّ المنفي هل هو فعلية العذاب أو إستحقاق العذاب، ومحل الكلام في نفي إستحقاق العذاب أي أنَّ من يخالف التكليف الذي لم يتم عليه البيان لا يستحق العذاب، فالبراءة المراد إثباتها هي عبارة عن نفي إستحقاق العذاب عند مخالفة التكليف غير المعلوم.

قد يقال: إنَّ الآية تدل على نفي فعلية العذاب لا نفي إستحقاق العذاب فإنها تقول ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾ ولا تُعبِّر بما يدل على نفي إستحقاق العذاب، فليس في الآية دلالة على نفي الإستحقاق العذاب عند عدم بعث الرسل الذي أخذ كناية عن البيان وإبراز الحجة، وهذا التفسير هو الظاهر من صاحب الكفاية.

وفي مقابل ذلك ذكر المحقق العراقي قده أنَّ هناك ملازمة بين نفي فعلية العذاب وبين نفي الإستحقاق، فالآية تدل على نفي الإستحقاق بإعتبار هذه الملازمة، وذلك لأنَّه مع إستحقاق العذاب فمن شأنه تعالى أن يعفو ويصفح عن المخالفة ومن شأنه أيضاً أن يعاقب عليها، بمعنى أنَّ العذاب لو صدر منه مع الإستحقاق فهو في محله ولا يمكن القول أنه ليس لائقاً به سبحانه ولا من شأنه، والآية يقول ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾ فلا بد أن يكون من جهة عدم الإستحقاق، وبهذا تثبت الملازمة بين نفي الفعلية بلسان نفي الشأنية وبين نفي الإستحقاق فتدل الآية على نفي الإستحقاق وهو المطلوب.

والحاصل: إنَّ نفي فعلية العذاب مع فرض الإستحقاق من باب المنة والعفو وإن كان ممكناً ومن شأنه سبحانه وتعالى إلا أنه لا ينفي الشأنية من حيث العذاب بل مقتضاه شأنية العذاب أيضاً مع الإستحقاق، فإنَّ المستحق للعذاب لا يكون عذابه خارجاً عن شأنية المولى، بل لو صدر منه فهو في محله، وهذا خلاف ظاهر الآية في أنَّ العذاب ليس من شأنه سبحانه وتعالى، فلا بد من أن يكون من جهة عدم الإستحقاق.

وقد يعترض عليه بأنه منقوض بقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[1] الإنفال: 33، لظهور الآية في أنَّ وجود الرسول (صلى الله عليه وآله) أو استغفارهم هو السبب في نفي العذاب عنهم مع إستحقاقهم للعذاب أي أنَّ ذلك يُشكل مانعاً من فعلية العذاب مع وجود المقتضي وهو الإستحقاق، ومنه يظهر أنَّ نفي الفعلية لا يلازم نفي الإستحقاق، كما أنَّ الآية وردت بعنوان نفي الشأنية أيضاً ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُعَذِّبَهُمۡ﴾ وظاهر الآية هو أنَّ وجوده (صلى الله عليه وآله) يُشكل مانعاً مع وجود المقتضي للعقاب فالإستحقاق موجود وبالرغم منه نفى الفعلية بلسان نفي الشأنية فلا ملازمة.

وأجيب عنه بأنَّ المدعى هو الملازمة بين نفي الفعلية وبين نفي الإستحقاق في الآية محل الكلام ﴿مَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ والتي تتحدث عن العذاب الأخروي بحسب الفرض لأنَّ نفي الشأنية لا يكون إلا عند عدم الإستحقاق، وأما الآية الشريفة التي ذكرت في النقض فهي تتحدث عن العذاب الدنيوي، كما أنَّ تفسيرها لا ينحصر وجهه بعدم الإستحقاق حتى يقال أنَّ الإستحقاق في مورد الآية موجود فلا ملازمة بل يمكن أن يكون أنَّ نفس وجود الرسول (صلى الله عليه وآله) بينهم وكون العذاب النازل على الإمة مستلزماً لإهلاك الأمة يجعل العذاب ليس من شأنه سبحانه بالرغم من إستحقاقهم له، أي ليس من شأنه تعالى إنزال العذاب على الأمة مع وجود الرسول بين ظهرانيهم، بينما لا يوجد ذلك في العذاب الأخروي فينحصر تفسير نفي العذاب بلسان نفي الشأنية بعدم الإستحقاق، فيصح كلام المحقق العراقي قده بأنَّ هناك ملازمة بين نفي الفعلية وبين نفي الإستحقاق.

فتبين مما تقدم بأنَّ الإستدلال بالآية موقوف على أمور:

الأول في الغاية وهي إثبات أنَّ بعث الرسول كناية عن البيان، وأنَّ المراد بالبيان هو وصوله وليس صدوره، ووصوله بمعنى جعله في معرض الوصول.

الثاني في المُغيى وأنَّ الآية ناظرة الى العذاب الأخروي لا الدنيوي كما قيل.

الثالث أنَّ الآية تدل على نفي الإستحقاق لا على نفي فعلية العذاب.

والملاحظة على هذا الإستدلال هي أنَّ بعث الرسول هل هو كناية عن وصول البيان أو عن صدور البيان.

الآية الثانية قوله تعالى ﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ﴾[2] الطلاق: 7

وتقريب الإستدلال بها هو أنَّ إسم الموصول ﴿مَاۤ﴾ المراد به التكليف والحكم والمراد من الإيتاء هو الإعلام، أي لا يكلف الله نفساً إلا تكليف أعلمها به وأوصله إليها، فإنَّ إيتاء كل شيء بحسبه، فإيتاء المال تمليكه، وإيتاء الفعل بمعنى الإقدار عليه وإيتاء التكليف بمعنى إيصاله الى المكلف، فالمعنى هو لا يكلف الله نفساً إلا بتكليف واصل إليها وأما غير الواصل فلا يكلف الله به، فالاستدلال يتوقف على أن يكون المراد من الموصول هو التكليف أو ما يشمله وأن يراد من الإيتاء هو الإعلام والإيصال ونحوه.

وتقريب الإستدلال بحاجة الى بيان المحتملات في الآية:

الأول: المراد بالموصول هو خصوص المال والمراد بالإيتاء ملك المال ورزقه، فالمعنى لا يكلف الله نفساً إنفاقَ مالٍ إلا مالاً رزقها إياه، ومنشأ هذا التفسير بإعتبار إرتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾[3] الطلاق:7.

الثاني المراد بالموصول هو التكليف والحكم والمراد بالإيتاء الإعلام والإيصال - والإستدلال مبني على هذا الإحتمال إما في نفسه أو يندرج في ضمن ما يراد من الآية - فالمعنى هو أنَّ الله لا يكلف تكليفاً إلا إذا أعلم المكلف به وأما مع عدم إعلامه فلا يترتب عليه أثر.

الثالث المراد بالموصول هو مطلق الفعل والمراد بالإيتاء هو الإقدار عليه، والمعنى هو أنَّ الله لا يكلف الإنسان فعلاً إلا إذا كان قادراً عليه وهو مفاد قاعدة إستحالة التكليف بغير المقدور.

الرابع المراد بالموصول هو الجامع بين هذه الأمور - المال والتكليف والفعل - ويكون المراد من الإيتاء في كل مورد بحسبه.

نقول: يكن إدراج الإحتمال الأول في الثالث فيكون المراد من الموصول هو الفعل بالمعنى الشامل للإنفاق الذي هو فعل من الأفعال، فالمعنى لا يكلف الله نفساً فعلاً إلا إذا أقدرها عليه ومنه الإنفاق ولا يكلفها به إلا إذا رزقها ذلك المال، فتبقى ثلاثة إحتمالات التكليف والفعل الشامل للإنفاق والجامع بينهما والإستدلال بالآية يتوقف على استبعاد الإحتمال الثالث - أي الفعل بالمعنى العام - فإذا دار الأمر بين التكليف وبين الجامع صح الإستدلال بالآية أما على التكليف فواضح والمعنى لا يكلف الله نفساً تكليفاً إلا إذا أعلمه وبينه لها وهو معنى البراءة، وأما على الجامع فيكون شاملاً للتكليف ويثبت به المطلوب.

وصحة الإستدلال بناء على أنَّ المراد بالموصول هو الجامع مبني على عدم وجود محذور ثبوتي مانع من الإلتزام به كما سيأتي التعرض له.

قد يقال: إنَّ مورد الآية هو الإنفاق كما تقدم فلا بد أن نستبعد التكليف، وحينئذٍ يشكل الإستدلال بها.

وجوابه إنَّ كون الإنفاق هو مورد الآية لا يمنع من إطلاق الآية وشمولها للتكليف فإنَّ المورد لا يُخصص الوارد فيما إذا كان مطلقاً كما هو كذلك في الآية.


[1] سورة الانفال، الآية 33.
[2] سورة الطلاق، الآية 7.
[3] سورة الطلاق، الآية 7.