الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة الشرعية/

البراءة الشرعية

وهي التأمين المجعول من قبل الشارع عند عدم البيان، وإستدل لها بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والاستصحاب، أما من الكتاب فاستُدِل بآيات:

الأولى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ الإسراء: 15 وتقريب الإستدلال بها بدعوى أنَّ بعث الرسول بحسب الفهم العرفي كناية عن إيصال الحجة والبيان، وأما بعثه بما هو بعث إذا تجرد عن البيان فلا أثر له، فتدل الآية حينئذٍ على نفي العقاب قبل البيان، وهو معنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي يُدعى إدراكها عقلاً، فكأنَّ الشارع قال: أنا لا أعذب حتى يتم البيان، فحتى لو لم تتم البراءة العقلية فيكفي في التأمين البراءة الشرعية.

والكلام في الآية يقع في مقامين:

الأول في الغاية وهي قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ وما هو المقصود بالبعث.

والثاني في المُغيى وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾ وما هو المقصود به.

أما المقام الأول فالظاهر منه أنَّ المراد من البعث هو الذي يشتمل على بيان الأحكام وإقامة الحجة عليها، وأما البعث بما هو فلا يترتب عليه أثر، وحينئذٍ يكون مفاد الآية هو نفي العذاب حتى يُبيِّن لهم ما يتقون به هذا العذاب، وهو بيان الأحكام الشرعية ومراد المولى سبحانه من عباده.

وأورد عليه: أنَّ بعث الرسول بناءً على هذا التقريب يثبت به عدم العقاب والتأمين مع عدم صدور البيان ولا يثبت به التأمين مع عدم وصوله مع فرض صدوره، والحال أنَّ الكلام في الثاني بمعنى هل هناك تأمين مع عدم وصول البيان على التكليف مع فرض صدوره؟

وهذا المعنى لا يكاد يثبت بالآية لأنها تقول ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ وهو كناية عن صدور البيان من الشارع ولا تتعرض الى وصول البيان الى المكلف، فما يثبت بالآية هو نفي العقاب مع عدم صدور البيان لا نفي العقاب مع عدم وصول البيان الذي هو محل الكلام، وأما الأول فلا كلام فيه ولا ينكره أحد لأنه يعني أنَّ التكليف الذي لم يُبرزه الشارع لم يستوفِ مراحل تشريعه، ولا إشكال في أنَّ العبد إذا خالف هذا التكليف لا يستحق العقاب، وإنما النزاع في حالة عدم وصول التكليف الى العبد.

ويلاحظ عليه: لو سلَّمنا جدلاً ما قيل وفسَّرنا بعث الرسول بالصدور فالثابت بالآية هو أنَّ مخالفة التكليف الذي لم يبرزه الشارع لا عقاب عليه، ولكنها تقتضي أنَّ التكليف الذي أبرزه الشارع ففيه عقاب وإن لم يصل الى المكلف، وهذا ما لا يمكن الإلتزام به بنظر القائلين بالبراة العقلية لأنه ينافي ما حكم به العقل وهو قبح العقاب مع عدم وصول البيان، ولكن الآية بحسب هذا التفسير تقول هناك عقاب ولو مع عدم وصول البيان، فهذا التفسير يواجه هذه المشكلة.

ومن هنا يكون هذا الإيراد مبنائياً بمعنى أنَّ الذي لا يؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان يمكنه الإلتزام بهذا التفسير إذ لا يصطدم مع حكم عقلي بل يكون مؤيداً للمسلك الآخر الذي يؤمن بحق الطاعة.

والصحيح في المقام هو أنَّ بعث الرسول كناية عن البيان وإقامة الحجة على العباد فلا بد من تفسير البيان بالوصول لا بالصدور وذلك باعتبار أنَّ البيان وإقامة الحجة لا يصدق إلا مع الوصول، فالوصول مأخوذ في مفهوم البيان، وأما البيان الواقعي للتكليف من دون وصوله الى المكلفين فلا يصدق عليه أنه بيَّن الأحكام للعباد وأقام الحجة عليهم، فالظاهر أنَّ بعث الرسول يراد به الوصول لا الصدور، كما أنَّ المناسبات العرفية تقتضي ذلك أيضاً لأنَّ الغرض من بعث الرسل هو بيان الأحكام لهم وإقامة الحجة عليهم وهو لا يكون إلا بالوصول.

ومن هنا يظهر أنَّ هذا الإيراد غير تام، مع الإلتفات أنَّ المراد من الوصول هو جعل الأحكام الشرعية في مظان تحصيلها وليس المراد إيصالها فعلاً الى آحاد المكلفين كما هو واضح، وهذا كاف في تنجُّز التكليف على المكلف.

وأما المقام الثاني في المُغيّى وفيه بحثان:

الأول: هل المراد من نفي العذاب ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾ العذاب الدنيوي أم العذاب الأخروي أم نفي العذاب مطلقاً؟

الثاني: إنَّ مفاد الآية هل هو نفي فعلية العذاب أو نفي الإستحقاق؟

أما البحث الأول فقد يقال إنَّ المقصود به هو العذاب الدنيوي كما ذهب الى ذلك بعض المحققين منهم السيد الطباطبائي قده في الميزان حيث يقول إنَّ الآية ناظرة الى نفي العذاب الدنيوي عن الأمم السابقة إلا بعد بعث الرسل، وهي إشارة الى سُنة إلهية جرت في الأمم السابقة وهي أنه تعالى لا يُنزل العذاب إلا بعد إرسال الرسل إليهم لإنذارهم وتحذيرهم، فالآية في مقام الإخبار عن هذه السُّنة الإلهية، وبناءً عليه تكون الآية أجنبية عن البراءة لأنَّ المقصود من البراءة هو نفي العذاب الأخروي والتأمين بلحاظه لا بلحاظ العذاب الدنيوي.

وقد يدعى وجود القرينة على ذلك وهي قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا﴾ فإن (كان) فعل ماضي مفاده الإخبار عن وقوع النسبة في الزمان الماضي، أي نحن لا نعذب الأمم السابقة عذاباً دنيوياً إلا بعد بعث الرسل.

لكن الظاهر من هذه الصياغة أنَّ (كان) هنا منسلخة عن الإخبار عن الزمان الماضي فلا يراد بها نفي وقوع النسبة في الزمان الماضي وإنما يراد بها نفي الشأنية، فيكون المعنى حينئذٍ هو: ليس من شأننا ولا يليق بنا أن نعذب قبل إرسال الرسل، وهذه صياغة مستعملة في كثير من الموارد تعبيراً عن عدم مناسبة الشيء له سبحانه وتعالى كقوله: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّینَ عَضُدࣰا﴾ الكهف: 51 أي لا يناسبني ذلك وليست إخباراً عن عدم وقوع ذلك، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ﴾ الإنفال: 33 أي ليس من شأننا أن نعذبهم وهم يستغفرون، ومن التعابير المتداولة: (لم أكن لأخون الأمانة) أي ليس من شأني ذلك ولا يظهر منه الإخبار عن عدم وقوع الخيانة، وحينئذٍ يكون مفاد الآية هو أنَّ المتكلم لا يناسبه أن يعذب قبل بعث الرسل.

وقد يؤيد هذا المعنى هو أنَّ الآية لم تقل (لا نعذب) بدخول لنفي على العذاب وهو التعبير المتعارف في مقام الإخبار وإنما قالت ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ﴾ الذي قد يكون إشارة الى نفي الشأنية لا مجرد الإخبار عن عدم الوقوع.

ومع حمل الآية على نفي الشأنية فحينئذٍ تنسلخ (كان) عن معنى الإخبار من قبيل ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ یَسۡتَغۡفِرُونَ﴾ التي لا يظهر منها الإخبار، ومعه كيف تحمل الآية على العذاب الدنيوي! والحال أنَّ نفي الشأنية أعم من العذاب الدنيوي، فليس من شأنه تعالى أن يعذب قبل إرسال الرسل عذاباً أخروياً ولا عذاباً دنيوياً.

بل يمكن أن يقال أنَّ هناك قرينة يثبت بها أنَّ المقصود هو العذاب الأخروي وهي سياق الآيات السابقة على هذه الآية فإنها تتحدث عن أمور هي أنسب بالجزاء الأخروي منها بالجزاء الدنيوي وهي قوله تعالى:

﴿وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلۡزَمۡنَـٰهُ طَـٰۤىِٕرَهُۥ فِی عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ كِتَـٰبࣰا یَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ‌ ٱقۡرَأۡ كِتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡیَوۡمَ عَلَیۡكَ حَسِیبࣰا ‌ مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ الإسراء:13- 15

فهذا السياق كله مناسب للعذاب الأخروي فيمكن جعله قرينة على أنَّ العذاب المنفي هو العذاب الأخروي، هذا بالنسبة الى البحث الأول.

بل يمكن أن يقال: لو سلَّمنا أنَّ الآية ناظرة للعذاب الدنيوي وأنه منوط ببعث الرسل فيثبت ذلك بالنسبة الى العذاب الأخروي بالأولوية لأنه أشد من العذاب الدنيوي فيثبت أنه لا يعذب عذاباً أخروياً إلا بعد بعث الرسل.

وأما البحث الثاني وأنَّ المنفي هل هو فعلية العذاب أم الإستحقاق، فقد يقال - كما في الكفاية - بأنَّ الآية تنفي فعلية العذاب ولا تنفي الإستحقاق، ومن الواضح أنَّ نفي فعلية العذاب أعم من نفي الإستحقاق فقد يستحق العبد العذاب إلا أنَّ المولى سبحانه لا يعذبه رأفة ورحمة، وحينئذٍ تكون أجنبية عن محل الكلام لأنَّ المقصود هو نفي الإستحقاق.