الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

44/07/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/ أصالة البراءة العقلية/ الدليل على إنكار البراءة العقلية ومناقشته

 

كان حاصل الدليل على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو أنَّ في العقاب والثواب الأخروي آراء:

الأول: أنه من باب تجسم الإعمال.

والثاني: أنه من الآثار الوضعية المترتبة على المعصية والإطاعة.

الثالث: أنهما وعد صدر من المولى تعالى، فهما أمران اختياريان مجعولان للمطيع والعاصي.

ثم يقول:

لا مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على الرأيين الأول والثاني لأنَّه ليس أمراً إختيارياً للمولى وإنما هو أمر قهري يترتب عليهما ترتب المعلول على علته، ففي المعصية شيء يقتضي العقاب وفي الإطاعة شيء يقتضي الثواب، فلا معنى لوصفهما بالقبح وإنما يصح ذلك في الفعل الإختياري، وأما ما كان خارجاً عن الإختيار فلا يتصور فيه القبح، فلا معنى لأن نقول أنَّ العقاب على مخالفة التكليف مع عدم البيان قبيح ونفسِّر العقاب بالتفسير الأول أو الثاني.

ومن هنا يتعين الرأي الثالث، ولكن لا سبيل الى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان أيضاً لعدم معرفة الملاك الذي لأجله أوعد الشارع بالعقاب على المعصية، فلا يمكن أن يتوعد العاصي بالعقاب من باب التشفي وهو واضح، كما أنه ليس الغرض منه هو ردع العاصي عن الفعل أو ردع غيره عن إرتكاب مثل هذا الفعل لأنَّ المفروض إنتهاء دار الدنيا ونشأة التكليف، فالملاك الذي على أساسه أوعد الشارع العاصي بالعقاب والمطيع بالثواب مجهول لدينا، وعليه لا معنى لأن يحكم العقل بقبح العقاب، وإنما يتصور ذلك مع العلم بملاك العقاب فللعقل أن يحكم بالقبح في مورد عدم ثبوت ذلك الملاك.

وفي المقام نحتمل أنَّ مخالفة التكليف الذي لم يتم عليه البيان كمخالفة التكليف الذي تم عليه البيان من حيث الملاك الذي أوعد على أساسه الشارع العقاب فيثبت العقاب فيهما، فكيف يمكن الحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف الذي لم يتم عليه البيان؟! وعليه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

نعم يمكن تصور ذلك في العقاب الدنيوي بدعوى معرفة ملاك عقاب العاصي فيها وهو إرتداعه وارتداع غيره عن المخالفة وأما بالنسبة الى العقاب الأخروي فهو غير متصور.

والحاصل: من المحتمل أن يكون الملاك الذي بملاحظته أوعد الشارع بالعقاب ثابتاً في مورد المخالفة حتى مع الشك، فكيف يُدعى حكم العقل بقبح صدوره من المولى أو يدعى تطابق آراء العقلاء على قبحه حفظاً للنظام؟

ويلاحظ عليه: إنَّ مراد القائل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو فعلية العقاب وإنما مراده هو إستحقاق العقاب، بمعنى أنَّ العبد إذا خالف التكليف الذي تم عليه البيان فهو يستحق العقاب، وأما فعلية العقاب ووقوعه فبيد المولى تعالى فقد يعاقب وقد يعفو، فالقائل بالبراءة يدعي أنَّ العقل يدرك إستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الذي تم عليه البيان، فلو عاقبه المولى فهو عقاب في محله وليس قبيحاً، كما يدرك عدم إستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الذي لم يتم عليه البيان وأنَّ العقاب على هذه المخالفة ليس في محله ويكون قبيحاً، فما يحكم به العقل هو الإستحقاق وعدم الإستحقاق لا وقوع العقاب وعدم وقوعه، نعم يترتب على ذلك أنَّ العقاب على تقدير حصوله ليس قبيحاً مع الإستحقاق ويكون قبيحاً مع عدم الإستحقاق، هذا أولاً.

وثانياً: إنَّ الإستحقاق وعدمه يترتبان على المخالفة وعدمها قهراً بخلاف نفس العقاب الذي هو فعل إختياري للمولى، وهذا يعني أنَّ إستحقاق العقاب على المخالفة من الآثار الوضعية للمخالفة المترتبة عليها قهراً كترتب التوفيق على إطاعة الوالدين مثلاً وترتب عدمه على عدمها، فإستحقاق العقاب وعدمه أمران ليسا مجعولين للشارع ولم يحصلا بقرار منه، وهذا من قبيل ترتب الحرارة على النار، وحينئذٍ يدرك العقل هذا الإستحقاق عند المخالفة ويدرك عدمه عند عدم المخالفة، أو قل يدرك الملازمة بين المخالفة وبين إستحقاق العقاب كما يدرك الملازمة بين الطاعة وبين عدم إستحقاق العقاب، وحينئذٍ يمكن أن ندعي أنَّ ما يدركه العقل هو الملازمة بين الإستحقاق وبين مخالفة التكليف الذي قامت عليه الحجة، ويدرك الملازمة بين مخالفة التكليف الذي لم تتم عليه الحجة وبين عدم إستحقاق العقاب.

ولا معنى للقول بأنَّ العقل كيف يحكم بعدم إستحقاق العقاب مع الجهل بالملاك الذي على أساسه أوعد الشارع المخالف بالعقاب فإنه متفرع على أنَّ الثواب والعقاب فعلان للمولى، وهذا كله مبني على أنَّ القائل بالبراءة يكون ناظراً الى العقاب وعدم العقاب ولكن الظاهر كما تقدم أنَّ النظر الى الإستحقاق وعدم الإستحقاق وهو مما يدركه العقل وأما نفس صدور العقاب فليس مما يدركه للعقل، وعلى هذا يكون معنى حكم العقل هو إدراك أنَّ العقاب لو صدر من المولى لكان في محله مع الإستحقاق ويكون في غير محله مع عدم الإستحقاق، والثاني هو الذي يُعبر عنه بقبح العقاب، بمعنى لو فرض صدور العقاب مع عدم البيان فهو في غير محله ويكون قبيحاً.

ومن هنا يظهر أنه لا يرد على قاعدة قبح العقاب بلا بيان أي إشكال ثبوتي، وما تقدم من إشكال يبتني على الرأي الثالث في تفسير العقاب والثواب وأما إذا قلنا انهما من الأمور القهرية المترتبة على المخالفة والموافقة فلا معنى لهذا الإشكال.

وهذا القبح ليس توصيفاً للإستحقاق حتى يقال لا معنى لتوصيفه بالقبح وإنما هو توصيف للعقاب على تقدير صدوره في مورد عدم الإستحقاق، بخلافه في موارد الإستحقاق فإنه يكون في محله ولا يدرك العقل قبحه.

ومنه يظهر أنَّ ما ذكره من أنَّ العقاب الأخروي لا يترتب عليه أثر كلام في غير محله لأنَّ الكلام في الإستحقاق وعدمه لا في العقاب، وأما صدوره منه تعالى فلا يتدخل العقل فيه فلا معنى لأن يقال إنَّ العقل لا يدرك ما هو الملاك الذي لاحظه الشارع في العقاب في الآخرة.

والحاصل: لا يوجد محذور ثبوتي في دعوى إدراك العقل لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وما ذُكر لا يكون دليلاً على منع ذلك، كما إنَّ الأدلة التي إستدل بها القائل بالقاعدة لا تنهض للبرهنة عليها، نعم يمكن أن تكون منبهات وجدانية لهذه القاعدة.

كما يمكن أن نذكر منبهاً لصحة هذه القاعدة من الكتاب العزيز وهو قوله تعالى:

﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾[1] ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[2]

فمع إرسال الرسل تكون الحجة لله على الناس ومع عدم إرسالهم تكون الحجة للناس على الله، فإذا أخذنا الرسول كمثال للبيان فيكون مفاد الآية هو أنه مع البيان تكون الحجة لله على الناس فعقاب المخالف يكون في محله، وأما مع عدم إرسال الرسول - أي عدم البيان - تكون الحجة للناس على الله ولا يكونوا مستحقين للعقاب، خصوصاً إذا فهمنا من الآية أنَّ ثبوت الحجة لله على الناس حتى مع عدم إرسال الرسل أمرٌ لا يناسبه تعالى فيكون الظاهر من الآية هو أنَّ العقاب من دون بيان أمر لا يليق بساحته المقدسة وأنه ليس من شأنه ذلك، وهذا لا يكون إلا بإعتبار أنَّ العقاب على خلاف الموازين ولذا يُنزّه عنه سبحانه ويكون ظلماً وتعدياً، ولو صح قانون حق الطاعة لكان العقاب على الموازين فلا يكون أمراً غير لائقاً به ولا مناسباً له، نعم قد لا يُعاقب من باب العفو لكنه لا ينفي كونه مناسباً له، بل هو مناسب ولكنه تعالى يعفو ويصفح.

فهذه الآية يمكن أن تكون منبهاً وجدانياً على صحة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.


[1] سورة النساء، الآية 164.
[2] سورة النساء، الآية 165.